الساعة 00:00 م
الخميس 28 مارس 2024
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.65 جنيه إسترليني
5.19 دينار أردني
0.08 جنيه مصري
3.98 يورو
3.68 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

في حوار مع والدة الشهيدين "الزعزوع"..

"حسن ومحمود".. حين تكون الروح ثمنًا لـ "لقمة العيش"

حجم الخط
F7B82630-89C3-4B5F-ABAA-F710F53AC46E.jpeg
غزة - وكالة سند للأنباء

بعد عناء طويل من الانتظار، يبدو "محمود" الشاب الوسيم في عائلته فَرِحًا بحُلم بسيط تحقق له ولإخوانه، إذ أصبح لديهم سفينة صغيرة، يشقّون فيها طريق رزقهم في عَرض البحر، حالمين بطيّ صفحة "من الحرمان وأيام الشدّة"، واجتماعٍ  قريب مع آمالهم المؤجلة.

ثلاثة أسابيع مرّت فقط على هذا الفَرح، وقبل أن تحمّل السفية أول بُشريات الرزق لأصحابها، باغتهم رصاص الجيش المصري في بحر مدينة رفح جنوب قطاع غزة، قتل اثنين، في حين بقي شقيقهم الثالث رهن الاعتقال.

إنهما شهيدا لُقمة العيش، الصياديْن الفلسطينيين حسن الزعزوع (26 عامًا) ومحمود الزعزوع (22 عامًا)، وشقيقهما المعتقل "ياسر" (19 عامًا)، وهم من سُكان دير البلح وسط قطاع غزة.

في هذا التقرير استضافت "وكالة سند للأنباء" والدتهم نوال الزعزوع "أم نضال"، لتحكي لنا قصّة أبنائها وأحلامهم التي نُسفت في مهدها بمشهدٍ مأساوي لا يُنسى، ليتركا قلبها في حرقةٍ يتسائل "ألهذا الحد أصحبت العروبة جُرح غائر فينا؟".

كان الشباب الثلاثة منذ طفولتهم، يجدون في الصيد على شاطئ بحر غزة، هواية ممتعة يقضون فيها أوقات فراغهم، بُحكم قرب بيتهم منه، كبِروا وتحوّل الصيد إلى مهنة يَسعون من خلالها لتوفير لُقمة عيشهم وتكوين أنفسهم.

تقول والدتهم، إن أبنائها كغيرهم من شباب غزة ينحتون في الصخر ليل نهار، لأجل حياةٍ، كريمة مستقرة.. "حسن" و" محمود" كانا يعملان في البناء وتربية الدواجن، أما "ياسر" فشقّ طريقه في مهنة الصيد منذ سنوات.

وفي حرب عام 2014 تكبّد الأشقاء خسائر فادحة إثر قصف الاحتلال الإسرائيلي لمزرعة الدواجن التي يتملكونها، ثم جاء مَرض والدهم بـ "سرطان الدم" فازداد العِبْء المُلقى على كاهلهم، فلم يجدوا إلا الصيد _رغم موسمية الزرق فيها_ كمهنة دائمة لهم.

ولم يكن بحر دير البلح، هو الوجهة الوحيدة التي يذهب إليها الأشقاء بحثًا عن رزقهم، إذ كانوا يتجهون لبحر رفح جنوب قطاع غزة، ليتمكنّوا من الصيد بكمياتٍ أكثر، لسداد التزامات عائلتهم المالية.

وعادةً يُبحر الأشقاء الثلاثة في عرض البحر يوميًا من ساعات المساء الأولى حتى فجر اليوم التالي، يجهزون عَدة الصيد، وما لذّ وطاب من طعام والدتهم، ثم يذهبون إلى طريقهم المحفوف بالمخاطر، بينما يظّل قلب "أم نضال" قَلق يردد دعاء ممتلئ بالرجاء "يارب رجعلي اياهم سالمين غانمين".

"وداعًا لأحلامكما البسيطة"

مساء الخميس، الرابع والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، جهّز "حسن"، "محمود"، و"ياسر"، أغراضهم وعدّة الصيد، وقبل خروجهم أَلقوا على أمهم تحيّة الوداع المعتادة "نوال ادعيلنا"، فيردّ صوتها برجفة: "ربي وقلبي معكم".

وككل ليلة.. هم يذهبون إلى البحر، بينما تتهوه الأم في انشغالات البيت، وفي أحاديث جانبية مع عائلتها تارة أخرى، وشرود ذهنها في اليوم الذي ستفرح بـ "حسن" الذي عقد قرانه قبل 5 أشهر، وصوتها يقول فرحًا :"يوم السعد يوم أشوفك عريس".

اشتد ظلام الليل أكثر، وقلبها لازال يقظًا يستحضر ملامح "محمود" الذي بدا كالبدر ليلة تمامه، و"ياسر الجدع" الذي تحمّل مسؤولية منذ صغره، تُردف: "كنت أشغل نفسي بكل هذه التفاصيل حتى يطلع الصبح وأشوفهم أمامي سالمين" لكنّ ..!

على الضفة الأخرى من المشهد، كان فلذات أكبادها، يحاولون النجاة بعد مطاردة البحرية المصرية لهم، حاصرهم الرصاص من كل الجهّات، أصابهم وغرقوا بدمائهم، فاستشهد "محمود" و"حسن"، وأُصيب "ياسر" ثم اُعتقل.

الإشارة التي كانت تُطمئن قلب الأم كل صباح، هي صوت فتح باب منزل ابنها "أحمد" المجاور لها، حينها تعرف أنهم وَصلوا شاطئ دير البلح، وهو ذاهب لمساعدتهم في العودة للمنزل، لكن يومها ماذا حدث؟

تُجيب: "بقيت أنتظر الصوت المعتاد، لكنني لم أسمع حتى الهمس، ساورني القلق، لماذا تأخروا؟.. الساعة الـ 6:15 صباحًا سمعت صوت الباب، فهدأت وقلت خيرًا إن شاء الله، غلبني النعاس بعدها فغفوت".

عند الساعة السابعة والنصف صباحًا، استيقظت الأم من نومها مفزوعة، ذهبت مُسرعة لمنزلها ابنها، فوجدته يبكي، سألته "وين اخوتك؟" صمت قليلًا، ثم أجابها بصوتٍ منخفض "الطراد لاحقهم، ولا نعرف مين استشهد ومين متصاوب، ادعيلهم".

هزّ صراخ "أم نضال" الحارة، انهارت قواها، وخرّت جاثية على ركبتيها تدعو "يارب احفظ لي أولادي أينما كانوا"، وبقيت العائلة بعدها يومين كاملين دون خبر يقين عن أحوال أبنائها.

ساعات ثقيلة مرّت على عائلة الزعزوع، كانت تحوم فيها عقارب الساعة حول نفسها، بأملٍ  ضئيل في العودة، وخوف كبير يُخيّم على أجواء المنزل.

تسير الأم بخطى ثقيلة في البيت ترتقب عودتهم، ثم تُغمض عينيها المتورمتين من شدة البكاء، تتسلل إلى ذاكرتها أحلامهم البسيطة "تكوين أسرة سعيدة، رزق حلال دائم، وراحة بال"، في محاولات للهروب من صوت القلق داخلها، لكنّ لا فائدة، "شعرت من لحظة خروجهم من البيت بأن حدثًا ما يتنظرنا".

"مس الموّت أولادي".. تدخّل الأب المريض باكيًا بهذه الكلمات، ليقطع شكّ زوجته باليقين، تقول إنها حاولت إقناعه أنهم بخير حفاظًا على صحتّه، لكنّ من يُقنع حدس الأباء الصادق!، ثم أخيرًا تم التأكيد رسميًا بنبأ استشهاد اثنين، واعتقال الثالث بعد إصابته.

تساءلت الأم المكلومة بصوتٍ كادت تخنقه حشرجة الدموع، عن الذنب الذي استدعى قتل شباب بـ "عمر الزهور"؟ مستطردةً: "لنتفرض أنهم تجاوزوا الحد المسموح به في الصيد، هل انعدمت الحلول ولم يبقى سوى القتل؟".

ولا تنسى "أم نضال" شهامة "ياسر" و"محمود" في شتاء العام الماضي عندما غرق عدد من الصيادين المصريين في بحر دير البلح، تحكى لنا عن ذلك: "اتجها دون تردد نحوهم أبحرا في عمق البحر، وأنقذوهم من الغرق، ومرضا على أثرها مرضًا شديدًا بسبب برودة الأحوال الجوية، ثم يكون القتل جزائهم؟".

"كأنهما يمهدان خبر الرحيل"

"محمود" شاب العائلة المّرح الذي لا يُعكر صفو مزاجه شيء، يسعى دائمًا لخلق البهجة في أرجاء منزلهم، يُمازح أمه طوال الوقت، يُغني لها، ويتدلل في طلباته، بدا بعيون أبويه في أيامه الأخيرة "شديد الجمال كأنه البدر".

أما "حسن" فروح الحياة تجددت فيه، بعد امتلاكهم سفينة خاصة بهم، وانتظم عمله في الصيد، كان موقنًا أن بينه وبين أحلامه مسافة صغيرة.. سيتزوّج ويبني بيتًا سعيدًا، وسيُعين والده ليتماثل إلى الشفاء.

تصفهما والدتهما قبل رحيلهما: "كانا يتصرفان بطريقة مريبة، يحملان تعابير ليست تعابيرهما، كأنهما يُمهدان لنا خبر الرحيل، أي وجعٍ هذا يا الله!".

وفي ختام حوارنا اجتمع حُزن الأمهات في حُنجرة نوال الزعزوع، وهي تُطالب بالإفراج عن ابنها "ياسر"، "أعيدوه، علّ نار قلبي تُخمد بلقائه والاطمئنان عليه".. فهل من مجيب؟