"استقيموا واعتدلوا وسدوا الخلل" كم اشتاق أهالي قطاع غزة لسماع هذه العبارة التي لها ما لها من هيبة تقع على القلوب بعد أن تصدح بها مكبرات المآذن إيذاناً ببدء صلاة التراويح، وسط أجواءٍ من السكينة والروحانية التي يبثها شهر رمضان المبارك.
لكن رمضان هذا العام في قطاع غزة عاد بمشاعر مختلطة، بعد أن سرق الاحتلال الإسرائيلي بهجته العام الماضي خلال حرب الإبادة التي استمرت 16 شهراً.
ودمر الاحتلال الإسرائيلي خلال حربه المسعورة على القطاع 1109 مساجد، وحَصْد أرواح عشرات آلاف الفلسطينيين الذين كانوا يسارعون إلى الصفوف الأولى وينتظرون بشوق الشهر الفضيل.
ورغم عودة أهالي قطاع غزة إلى تأدية صلاة التراويح وإحياء هذه العبادة؛ إلا أنَّ غصة الدمار والفقد لا زالت تكوي أفئدتهم وتؤجج في قلوبهم ذكريات "رمضان ما قبل الحرب".
ذكرى في القلوب..
الشابة ساجدة عماد، كانت تنتظر شهر رمضان "على أحر من الجمر"، وترتقب صلاة التراويح التي تبعث بالسكينة والطمأنينة، ولِما لمسجدها الملاصق لبيتها من مكانة في قلبها، وهو الذي ترعرعت على حلقاته منذ نعومة أظفارها.
وبحُرقة أشعلتها الحرب في فؤادها، تستذكر "عماد" مع مراسلة "وكالة سند للأنباء" أجواء شهر رمضان في مسجدها "مرج الزهور" في حي النصر وسط مدينة غزة، الذي كان يشعرها بالسَّكينة قبل أن يحوله الاحتلال الإسرائيلي إلى كومة من الحجارة مساء 27 أكتوبر 2023.
وتقول "عماد": "كنت أحدث صديقاتي عن أجواء صلاة التراويح ولا أنسى الاعتكاف وروحانياته، من ذكريات الصلاة وصوت الإمام وأحاديث النساء بين الركعات، هي تفاصيل صغيرة لكنها كبرت معنا وأصبحت جزءاً منا".
وتقطع حديثها دمعة تسللت من عينها: "أما لحظة تدمير مسجدنا المجاور لمنزلنا يصعب علينا نسيانها، فلم يُدمَّر المسجد فحسب إنما دُمِّرت قلوبنا مع كل حجر سقط منه، ذهب المسجد وذهب البيت وعاد رمضان محملاً بالوجع وغصة في القلب لا تزول".
وتؤدي "ضيفة سند" صلاة التراويح هذا العام رفقة عائلتها في المنزل الذي يقطنون فيه بعد نزوحهم؛ في محاولةٍ لإحياء صلاة الجماعة واستشعار عبادة رمضان.
"نصلي في الأماكن المفتوحة"..
ولا يختلف حال الشابة ندى ناجي عن سابقتها، فقد كانت تذهب لصلاة والتراويح مع عائلتها والجيران في إحدى مساجدهم شرق مدينة دير البلح وسط قطاع غزة.
أما بعد العدوان الإسرائيلي وتدمير العديد من المساجد في منطقتها، أصبح الوصول إليها صعبًا، وتستدرك ضيفتنا: "لكننا نصلي في الساحات أو الأماكن المفتوحة بجانب المساجد المدمرة، وفي بعض الأحيان في الخيام، والصلاة لا تتوقف رغم الدمار".
وتزيد: "لا شك أن الحال مؤلماً، لكننا أدركنا أن الصلاة لا ترتبط بالمكان، فالإيمان الذي نحمله في قلوبنا، هو الذي يجعلنا نستمر في حياتنا وفي عبادتنا".
بعد 15 عاماً من الإمامة..
ويجد الشاب أحمد حامد، أحد أئمة مساجد مدينة غزة غصة في قلبه تأججت مع بداية شهر رمضان المبارك، الذي حرمه روحانية العبادة والإمامة التي اعتاد عليها منذ 15 عاماً.
ويصف "حامد" لـ "وكالة سند للأنباء" شهر رمضان لهذا العام، بالشهر الحزين المنطفئ، الذي يفتقد فيه ضيفنا العشرات من رفاقه الأئمة والدعاة الذين كانت جداولهم تُملأ بتقسيمات الاعتكاف والقيام، لكنهم ارتقوا إلى بارئهم شهداء.
وبحشرجة في صوته يتابع: "أما المساجد فلها شأن آخر، فقد كانت بيوتنا الثانية، نتسابق إليها خاصة في شهر رمضان، لكنها أصبحت الآن ذكرى، في مشهد مؤذٍ أثر بشكل كبير على أداء الشعائر الدينية وإقامة الصلوات".
ويُعيدنا "حامد" عاماً إلى الوراء مستذكراً قسوة شهر رمضان الأول خلال حرب الإبادة على قطاع غزة عام 2024، حيث كان الخوف سيد الموقف آنذاك، فلم يجرؤ أي شخص على الاقتراب من المساجد خوفاً من استهدافها أو اقتحامها.
كما قُضي رمضان ذلك العام في النزوح من مكان لآخر وسط سيل من الدماء لم يتوقف وقصف همجي جوي وبري وبحري من جميع الجهات.
لكن الأمل لم ينقطع فبعد أن وضعت الحرب أوزارها منتصف يناير/ كانون ثاني الماضي، يحاول "ضيفنا" استكمال الطريق، بالإمامة في مراكز الإيواء ومخيمات النزوح؛ لإحياء روحانية التراويح في رمضان.
ويحرص "حامد" – كما حدثنا- على عدم الإطالة في الصلاة؛ نظراً لظلمة المكان وبرودة الطقس وكثرة الطائرات الإسرائيلية المُسيَّرة التي تُزعزع الأمن وتؤثر على خشوع المصلين.
تدمير ممنهج..
إلى ذلك، يضعنا مدير عام العلاقات العامة والإعلام في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية أنور أبو شاويش، في صورة أوضاع المساجد في قطاع غزة، والتي تسبب الاحتلال الإسرائيلي بتدمير 1109 منها كلياً وجزئياً، من أصل 1244 مسجداً، بنسبة تجاوزت 89%.
وبحسب "أبو شاويش"، فإن جيش الاحتلال تسبب بتدمير 834 مسجداً كلياً، حيث حولتها إلى ركام وأثرٍ بعد عين، أما 75 مسجداً قد تم تدميرهم بشكل جزئي بليغ.
ومن بين المساجد وأبرزها "المسجد العمري الكبير" وهو أقدم مساجد قطاع غزة الأثرية، والذي تم بناؤه قبل 4 آلاف عام، فقد دمره الاحتلال الإسرائيلي بشكل كلي خلال حرب الإبادة الجماعية.
ويوضح "أبو شاويش" لـ "وكالة سند للأنباء"، أن المسجد العمري كان يضم مئات المصلين من مدينة غزة في صلاة التراويح خلال شهر رمضان، فيمتلئ المسجد من الداخل وساحته الخارجية.
ويستدرك: "لكن أعداد المصلين الآن باتت محدودة، بعد أن تقلصت مساحة المسجد جراء القصف الإسرائيلي"، فتم إنشاء مصلى مؤقت في باحاته، ناهيك عن ارتقاء آلاف الشهداء من مدينة غزة، والذين حرمهم الاحتلال شهر رمضان المبارك.
إنشاء المصليات..
ومن اللحظة الأولى التي دمر الاحتلال فيها مساجد قطاع غزة، يبيِّن "أبو شاويش" أن وزارة الأوقاف شرعت بإقامة أكثر من 400 مصلى، في مخيمات النزوح ومناطق الإيواء في قطاع غزة.
ولا بد لعملية إنشاء المصليات أن تُحاط بالصعاب في ظل الحصار الخانق لقطاع غزة، وكان على رأسها عدم دخول مواد البناء، وفقاً لما ذكره أبو شاويش.
ويشير "أبو شاويش" إلى أن المصليات المؤقتة التي تم إنشاؤها تتكون من شوادر من النايلون أو الخشب، وأقواس الحمامات الزراعية، وهي مكونات بدائية في محاولة لإرجاع بهجة العبادة من جديد.
وتبرز مشكلة أخرى هي توفير الطاقة والكهرباء، فتلجأ "الأوقاف" إلى استخدام البطاريات الصغيرة للإضاءة، والسماعات الكبيرة التي تُشحن على الكهرباء لتغطية العجز الحاصل بسبب انقطاع الكهرباء.