حذرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، من أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تفرض هدفها النهائي في غزة بقتل الحياة فيها مع استمرار الحصار الإسرائيلي للمساعدات واختفاء المناطق الإنسانية، وسط حديث متواتر عن حدوث "نكبة ثانية"
وأبرزت الصحيفة انقلاب دولة الاحتلال على اتفاق وقف إطلاق النار بعد شهرين من إعلانه، وفرض حصارًا شاملًا على الأراضي الفلسطينية في أوائل مارس الماضي.
ولم يدخل أي طعام أو إمدادات طبية إلى غزة منذ تسعة أسابيع، وقد استولت القوات الإسرائيلية الآن على نحو 70% من الأراضي وحولتها إلى مناطق عسكرية عازلة أو مناطق محظورة على المدنيين، مما دفع 2.3 مليون شخص وعمليات الإغاثة إلى مناطق أصغر حجماً على نحو متزايد ــ والتي لم تعد تُعرف بأنها "مناطق إنسانية".
ومدينة رفح، الواقعة على الحدود المصرية، كانت شريان حياة غزة إلى العالم الخارجي، لكنها الآن تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، مما حوّل القطاع إلى جيب مُحاط بالأراضي الإسرائيلية. وعلى الساحة الدولية، كسر دونالد ترامب محرمًا عمره عقود باقتراحه على الفلسطينيين الرحيل.
وعلى مدار ثمانية عشر شهرًا من الحرب، تعمدت دولة الاحتلال عدم الإفصاح عن تفاصيل ملموسة كثيرة حول خططها لمستقبل غزة.
ولكن بعد اجتماع مجلس الوزراء الأمني المصغر في وقت متأخر من يوم الأحد، صرّح مسؤولون إسرائيليون بأن جيش الاحتلال يُجهّز لهجوم جديد يُفضي إلى "غزو غزة والسيطرة على الأراضي، ونقل سكان غزة جنوبًا لحمايتهم".
الدعم المفتوح من ترامب
يقول الفلسطينيون إن الحملة العسكرية الشرسة الجديدة، والحصار غير المسبوق والاستيلاء على معبر رفح، وإعلان دولة الاحتلال عن خططها "لغزو" القطاع وإقامة "وجود مستدام" هناك ــ كل هذا بدأ منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وبمباركته ــ يشير إلى هدف واحد فقط: إجبارهم على الخروج من القطاع.
وبعد مرور ما يقرب من 80 عامًا على تأسيس دولة الاحتلال، لا يزال وضع اللاجئين الفلسطينيين قضية دولية معقدة. وينحدر حوالي 70% من سكان غزة من لاجئين شردتهم الحرب عام 1948، والتي تُعرف في اللغة العربية بالنكبة.
ويطالب حوالي خمسة ملايين فلسطيني حول العالم بحق العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم. ويقيم ما يقرب من مليون فلسطيني في لبنان وسوريا المجاورتين، حيث حُرموا من الجنسية لأجيال بحجة أن إقامتهم مؤقتة.
وقد رفضت دولة الاحتلال باستمرار حق العودة الفلسطيني خوفًا من تأثيره الديموغرافي، لكنه يبقى مطلبًا سياسيًا فلسطينيًا جوهريًا.
وتكاد كل عائلة فلسطينية تحمل ذكريات مؤلمة عن النكبة، وهو ما ألهم مثالًا فلسطينيًا رئيسيًا آخر: الصمود، الذي يؤكد على أهمية التمسك بالأرض ورفض مغادرتها.
ولعقود، أصر المجتمع الدولي على أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يمكن حله إلا بحل الدولتين. إلا أن ترامب قلب هذه القاعدة رأسًا على عقب، وخالف اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرمه في فبراير/شباط، حين أشار إلى أن "الخطة الوحيدة القابلة للتطبيق" لغزة هي رحيل سكانها وإعادة بناء القطاع ليكون "ريفييرا الشرق الأوسط".
وتعرضت الخطة لإدانة واسعة النطاق باعتبارها مخططا للتطهير العرقي ، كما رفضتها مصر والأردن رفضا قاطعا، واقترح ترامب في البداية أن تستوعب المزيد من الفلسطينيين.
رغم تراجع البيت الأبيض بعض الشيء عن اقتراح الرئيس، إلا أنه لا يزال مطروحًا. أفادت رويترز أن مسؤولين أمريكيين أجروا محادثات أولية مع حكومات السودان والصومال وأرض الصومال بشأن الموافقة على إعادة توطين لاجئي غزة.
وقال متحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الشهر الماضي إن الأشخاص الراغبين في مغادرة القطاع سيُسمح لهم بذلك "بما يتوافق مع القانون الإسرائيلي والدولي وبما يتماشى مع رؤية دونالد ترامب".
وأكد عمال الإغاثة إن الرحيل ليس خيارًا واقعيًا للكثيرين في غزة.
أشد الحروب دموية
وتُعدّ حرب الإبادة في غزة من أشدّ الحروب دمويةً وتدميرًا في التاريخ الحديث. فقد استشهد أكثر من 54 ألف شخص في الهجوم الإسرائيلي المدمر على القطاع. وتضرر حوالي 70% من البنية التحتية في غزة، ودُمّرت أنظمة المياه والصرف الصحي والرعاية الصحية بالكامل.
بموازاة ذلك تم تعليق العمل بهدوء في "المناطق الإنسانية" التي حددتها دولة الاحتلال، بما في ذلك منطقة المواصي على الساحل الجنوبي، حيث سعى أكثر من مليون شخص إلى البحث عن مأوى على مدار عام 2024.
قال مسؤول إغاثة في منظمة إنسانية كبرى: "ستُعتبر رفح بمثابة المواصي الجديدة، وسيتم تشجيع الناس على المغادرة منها". وأضاف: "الخطة واضحة تمامًا".
وبالإضافة إلى عمليات الاستيلاء الجديدة التي نفذها الاحتلال على الأراضي، قال ضابط سابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، والذي تم استدعاؤه للخدمة الاحتياطية في بداية الحرب، إن بروتوكول الاستهداف في الغارات الجوية على غزة يبدو أنه أصبح "أكثر تساهلاً" منذ انهيار وقف إطلاق النار.
ومن بين ركائز التصعيد في غزة، تجديد الحصار، الذي حرم القطاع من المساعدات والغذاء والوقود اللازم لتشغيل المولدات.
وقال أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية في غزة: "الإسرائيليون يدركون تمامًا ما يفعلونه بهذا الإغلاق. يحسبون كل شيء، حتى السعرات الحرارية، وما يسمحون بدخوله".
وأضاف: "في مطابخنا المجتمعية، لم يتبقَّ لدينا سوى الأرز، وسينفد الأسبوع المقبل. خلال ثمانية عشر شهرًا من المعاناة، هذه أسوأ أزمة شهدناها على الإطلاق".
وقال مسؤول إغاثة كبير، منتقدًا تشديد الاحتلال الأخير لقواعد التأشيرات والتسجيل للمنظمات الإنسانية: "نحن آخر الجهات الفاعلة المستقلة في غزة، وآخر الشهود الدوليين على ما يحدث". وأضاف: "إذا رحلنا، فهذا كل شيء: لإسرائيل أن تفعل ما تشاء".
وذكرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل الأسبوع الماضي أن هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق تقدر أنها ستحتاج إلى السماح بدخول المساعدات إلى القطاع مرة أخرى خلال الأسابيع القليلة المقبلة لتجنب ما وصفته بـ "أزمة إنسانية كبرى"، ولكن لا يوجد جدول زمني محدد لمتى سيصبح النظام الجديد جاهزا للتشغيل.
في هذه الأثناء، يمرّ الوقت سريعًا على أهل غزة حيث كل يوم أسوأ من سابقه.