قال المركز العربي في واشنطن (ACW) إنه في خضم حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، برز سلاح التجويع كأداة مركزية في استراتيجية العقاب الجماعي.
وأبرز المركز أنه بينما تتزايد التحذيرات الدولية من مجاعة واسعة النطاق، تستمر السلطات الإسرائيلية في فرض قيود مشددة على دخول الغذاء والوقود، وسط صمت دولي وتواطؤ من القوى الكبرى.
ولفت إلى أنه منذ ما يقرب من عامين، حذّر مسؤولو الصحة الفلسطينيون والوكالات الأممية من أن الحصار الإسرائيلي الكامل على قطاع غزة سيؤدي إلى انعدام الأمن الغذائي الشامل واحتمال وقوع مجاعة جماعية.
وأكد المركز أن هذا التحذير بات واقعًا مروعًا: عشرات الأطفال ماتوا جوعًا، وآلاف المرضى بلا دواء أو علاج، والمجتمع بأسره يتعرض لسياسة ممنهجة لتجفيف موارده الحياتية.
تجويع المدنيين.. تكتيك عسكري موثق
في نوفمبر 2024، وصفت لجنة تابعة للأمم المتحدة ممارسات دولة الاحتلال الإسرائيلي بأنها ترقى إلى أفعال إبادة جماعية، مستندة إلى أدلة على استخدام التجويع كوسيلة للحرب.
وهذا الاتهام أصبح أيضًا من أسس مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي تتهمه المحكمة باستخدام "التجويع كوسيلة قتال"، إضافة إلى جرائم أخرى.
رغم كل ذلك، استمرت دولة الاحتلال في إحكام سيطرتها على حركة الدخول والخروج من القطاع، وفي منع دخول المواد الغذائية الأساسية والمساعدات الإنسانية. ووفق بيانات أممية، لم يشهد قطاع غزة يومًا واحدًا من المساعدات الكافية منذ اندلاع الحرب.
الحلول البديلة الفاشلة: من الرصيف العائم إلى الإسقاطات القاتلة
في مواجهة تعنّت دولة الاحتلال، لجأ حلفاؤها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، إلى محاولات بديلة لإنقاذ ماء الوجه، مثل إنشاء رصيف عائم قبالة الشاطئ لم يُسهم سوى بإدخال كمية مساعدات تكفي ليوم واحد.
أما عمليات إسقاط المساعدات من الجو فقد تحولت إلى وسيلة قتل إضافية، أودت بحياة العديد من المدنيين بسبب الأعطال وسوء التنسيق.
ومع تزايد الغضب الدولي، قررت دولة الاحتلال احتكار إدارة الأزمة بنفسها، من خلال تأسيس "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF)، وهي مبادرة مدعومة أميركيًا وإسرائيليًا تهدف لتسليح المساعدات وحرمان وكالات الإغاثة الدولية من دورها التقليدي.
ويدير المؤسسة متعاقدون عسكريون خاصون بدلًا من جهات إنسانية محترفة، ما فتح الباب لانتهاكات واسعة، وصلت إلى مجازر ممنهجة في مواقع توزيع الطعام.
مواقع المساعدات: من نقطة نجاة إلى "فخ الموت"
خلال الأسابيع الأولى لتشغيل GHF، استشهد ما لا يقل عن 300 فلسطيني وأُصيب الآلاف أثناء محاولاتهم الحصول على مساعدات.
وتشير شهادات من الناجين إلى أن نقاط التوزيع تحولت إلى مصائد قتل جماعي، يتعرض فيها الجوعى لرصاص الجيش الإسرائيلي أو للقصف أثناء الاصطفاف.
ورغم كل هذه الكوارث، استمرت المؤسسة في العمل دون مساءلة، فيما تستمر دولة الاحتلال في تقليص عدد مواقع التوزيع – أربعة فقط في جنوب غزة – ما يدفع الفلسطينيين للمجازفة بعبور مناطق عسكرية خطرة من أجل لقمة العيش.
تهجير قسري مغلف بالجوع
يؤكد مراقبون أن استراتيجية التجويع لا تهدف فقط إلى إخضاع سكان غزة، بل تشكّل غطاءً لسياسة التهجير القسري التي تنفذها دولة الاحتلال منذ بدء الحرب.
فقد أُجبر مئات آلاف السكان على مغادرة بيوتهم مرارًا تحت طائلة القصف أو الحاجة إلى المساعدات. وتقول اليونيسف إن الفلسطينيين باتوا أمام خيارين: "النزوح أو الموت".
وبحسب تقارير ميدانية، فإن الجهد الإسرائيلي لتركيز المساعدات في مناطق محددة، لا سيما جنوب غرب القطاع، يخدم هدفًا سياسيًا-عسكريًا بتجميع السكان في "مناطق إنسانية" مرشحة لاحقًا للإخلاء.
أجندة الاحتلال تتقدّم
لم تُخفِ الحكومة الإسرائيلية نواياها. فمع استمرار المجازر، تتسارع الدعوات العلنية من وزراء في الحكومة للاستيطان في غزة بعد الحرب. وزير المالية بتسلئيل سموتريتش صرّح بأن "تدمير غزة بالكامل" سيدفع الفلسطينيين للمغادرة طواعية، فيما وافق المجلس الأمني المصغر على خطة لما سُمّي "الهجرة الطوعية" إلى دول ثالثة.
ورغم فشل المجتمع الدولي في وقف المجاعة، شهدت الأشهر الأخيرة جهودًا شعبية للضغط على الحكومة الإسرائيلية. أسطول الحرية حاول إيصال مساعدات بحرًا، بينما سعى نشطاء لعبور الحدود البرية من شمال أفريقيا.
لكن كل هذه الجهود قوبلت بالقمع، وهاجم الجيش الإسرائيلي السفن واعتقل المتضامنين، بينهم الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ.
في الأثناء، لا تزال GHF تروّج لمزاعم إنجازها، رغم أن أرقامها الرسمية تُظهر أنها وزعت فقط ما يعادل يومين من المساعدات الضرورية. وحتى هذه اللحظة، تستمر المجازر في مواقعها دون توقف.
المأساة مستمرة… والسكوت جريمة
لقد تحوّلت المساعدات – التي يفترض أن تكون طوق نجاة – إلى أداة للقتل والترهيب والتهجير. ويبدو أن دولة الاحتلال نجحت في فرض صيغة من "الاستجابة الإنسانية العسكرية"، تُبقي السكان رهائن للجوع، وتمنحها الذريعة السياسية لفرض حلول ديمغرافية بالقوة.
وختم مركز الدراسات بأن ما يجري في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل جريمة مستمرة مكتملة الأركان، تتواطأ فيها حكومات وشركات ومؤسسات دولية.
وشدد المركز على أنه فيما تتكشّف فصول هذه الكارثة، لن يُسجّل التاريخ فقط المذبحة، بل أيضًا أولئك الذين صمتوا عليها، وشاركوها، أو غطّوها.