حاملًا طبله الذي يرافقه منذ أكثر من أربعة عقود، يجوب الحاج السبعيني محمد قطروس زقاق مخيم النصيرات وسط قطاع غزة قبيل أذان الفجر، يقرع الطبل ويردد: "إصحى يا نايم وحّد الدايم"، "قوموا لسحوركم أجا رمضان يزوركم".
ومنذ 60 عامًا لم ينقطع المسحراتي قطروس (73 عامًا) عن العمل في مهنة المسحراتي، ورغم تطور وسائل التكنولوجيا الحديثة، محافظًا ومتمسكًا بأبهى الطقوس الطقوس الرمضانية على مرّ التاريخ.
وعلى مرّ العصور، كان للمسحراتي الدور الرئيسي في إيقاظ الناس قبيل أذان الفجر لتناول وجبة السحور باستخدام الطبل، وعادة ما يكون النداء مصحوبًا ببعض التهليلات والأناشيد والتواشيح الدينية وأسماء المواطنين.
ويعتبر أول من قام بهذه المهمة هو بلال بن رباح أول مؤذّن في الإسلام، الذي كان يؤذن للسحور، وابن أم مكتوم الذي كان يؤذن للامتناع عن تناول الطعام لحلول الفجر.
عشق للمهنة..
ويقول قطروس في حديثه لـ"وكالة سند للأنباء": "أعشق هذه المهنة كوني عملت بها وأنا في عمر 13 عاماً، برفقة أحد الزملاء حيث بدأ التسحير معي في ذلك الوقت باستخدام صينية، واستمر بالعمل معي لمدة 4 سنوات".
"طبلة" الحاج قطروس هي بحد ذاتها قصة أخرى، فهي ترافقه منذ عام 1980، بعد شرائها من سوق "فراس" أحد الأسواق الشعبية في مدينة غزة، ويرفض استبدالها، ويجول بها ناشرًا الفرح والسعادة بأجواء شهر الصيام في زقاق مخيم النصيرات وسط القطاع.
وبصوته الشجي يردد لنا بعض الأهازيج التي يرددها ويتميز بها "مصطفى من غرامك ما بنام الليل، ساعة بصلي وساعة بمدحك يا زين.. يا بخت مين راح وزارك محمد كحيل العين"، و"تسحروا فإن في السحور بركة"، و"يا ذاكرين النبي على المصطفى صلوا"، وغيرها من الأدعية والأذكار والأناشيد والأهازيج.
حقيبة بيضاء تنشر السعادة..
ولعل أبرز ما يميز الحاج قطروس، هو حقيبته البيضاء المليئة بالحلوى، والتي ترافقه يومياً في ليالي رمضان، وتعد مصدر سعادة للأطفال الذين ينتظرونه كل ليلة والذي اعتاد أن يوزع عليهم الحلوى أثناء ملاقاتهم.
وعن ذلك يحدثنا: "سعادة هؤلاء الأطفال هي سعادتي، حيث أشعرهم بفرحة رمضان وفضل الشهر الكريم وتشجيعهم على الصيام ومشاركتهم لي الأدعية الرمضانية والأهازيج الشعبية والتراثية".
ويؤكد الحاج قطروس على أهمية المحافظة على مهنة المسحراتي والاهتمام بها؛ لتعريف الأجيال الجديدة على هذه المهنة بوصفها واحدة من المهن التي زاولها الآباء والأجداد، وارتبطت بتاريخهم القديم وأثرهم الحضاري، حيث أصبحت موروثًا شعبيًّا تتوارثه الأجيال.
ويرفض الحاج قطروس الأحاديث التي تقول أن المسحراتي لم يعد له دور أساسي؛ بحجة انتشار التكنولوجيا والتنبيهات الإلكترونية، معتبراً أن مهمة المسحراتي ضرورية في الشهر الفضيل كونها من طقوس رمضان ويعطيه نكهة خاصة.
ترحيب وقبول..
ويعبّر سكان مخيم النصيرات عن إعجابهم بهذه العادة المتوارثة عن الأجداد، ويرغبون في الحفاظ عليها، وفق "ضيف سند"، مضيفاً: "أخرج في كافة الظروف، في المطر والبرد القارس، وفي ليالي الحر، دون كلل أو ملل".
ومع اقتراب نهاية الشهر الفضيل، يودّعه ضيفنا كما يودّع الحبيب حبيبه، ويقول: "أبكي بحرقة حين تأتي العشر الأواخر من رمضان وتبدأ الناس بتوديعه، وتبدأ فيه تهاليلنا الخاصة، إصحى يا نايم إصحى يا غفلان.. قوم واصحى وسبح الرحمن، ونغني كذلك طلع البدر علينا".
ويختم بالقول: "في غزة للمسحراتي طعم آخر، فلا يكتمل رمضان من دونه، حيث يرتبط ارتباطا وثيقاً بالتقاليد الشّعبية الرّمضانيّة، فقبل الإمساك بساعتين يبدأ المسحّراتي جولته الّليلية في الشوارع العامة والفرعية".
ولا يتقاضى المسحراتي في قطاع غزة أجراً مادياً مقابل التسحير، فإذا انقضى رمضان وجاء العيد طاف بالمنازل، فيعطيه الناس ما تيسر من النقود ويسمونها "العيدية"، وليست أجرة.