بشعورٍ ثقيل وأجواءٍ شاحبة يمر شهر رمضان الفضيل على قلب "فاطمة" المكلوم، بعد أن أفقدها العدوان الإسرائيلي الدموي جميع أفراد عائلتها في قطاع غزة بين غمضة عين وانتباهها، وبقيت في غربتها وحيدة يحرقها العجز وقِلة الحيلة عن تقبّل فكرة "وين راحوا وتركوني لحالي؟"
فاطمة عزمي الريس، فلسطينية من أبناء غزة، وقد تركتها قبل ثلاث سنوات وانتقلت بعد زواجها للعيش في النمسا، لكنّ قلبها ظل معلقًا بالمدينة التي صنعت فيها كل الذكريات الجميلة مع عائلتها؛ ليزورها أخيرًا الحزن من أوسع أبوابه، كلهم ذهبوا وبقيت هي بأجنحةٍ مكسورة للأبد.
وكغيرها من أبناء غزة المغتربين، عاشت "فاطمة" في حالةٍ خوفٍ وقلق دائمين منذ بدء الحرب الضارية على القطاع، خاصة مع اشتداد المجازر بحق المدنيين، وصعوبة التواصل بالأهل والأصدقاء؛ بسبب الانقطاع المتكرر والمتعمد للإنترنت والاتصال.
تقول فاطمة الريس في حديثٍ مع مراسلة "وكالة سند للأنباء" إنّ أهلها في غزة كانوا تحت القصف وأزيز الطائرات منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول الفائت، وفي الجهة المقابلة كانت هي لا تعرف طعمًا للحياة ولا النوم، ترابط أمام شاشات التلفاز، تتنقل بين منصات التواصل الاجتماعي لتفقد الأخبار، وتحديدًا في محيط مسكن عائلتها بشارع الصناعة غزة مدينة غزة.
ومن خلال خاصية الرسائل القصيرة، أو باتصالٍ لا يتجاوز الدقائق بعد محاولات عدة، كانت تتنفس "فاطمة" الصعداء، بعد الاطمئنان على عائلتها، والتأكد أنهم لا زالوا أحياء؛ في ظل ما تسمعه عن مجازر متتالية يروح ضحيتها شهداء بالجملة، منهم عائلات بأكملها!
الخامس من نوفمبر.. ليلة الفاجعة
"ما تقلقي يا بابا احنا بخير وما علينا إشي" بهذه الكلمات كان يحاول الأب الشهيد عزمي الريس تهدئة ابنته المغتربة، كلما استشعرت بمزيدٍ من الخوف عليهم، لكنّ القلق داخلها أكبر وأشد وطأة عليها من أي شعورٍ آخر.
مساء الخامس من نوفمبر/ تشرين ثاني 2023، باغت طيران الاحتلال الإسرائيلي بصواريخه الغادرة منزل عائلة الريس المكوّن من ستة طوابق في منطقة الصناعة؛ ما أدى لاستشهاد الأب وزوجته و3 من أبنائه (ميسرة، عزة، وعُريب) و3 أحفاد (كريم، آدم، وشام)، فيما منحت الحياة فرصة نجاة أخيرة لـ "مؤيد" و"محمد"، اللذين كانا خارج المنزل لحظة قصفه.
تحكي بلوعة: "خرج أخي مؤيد من المنزل قبل القصف بدقائق قليلة، وما إنْ وصل إلى بيت الجيران ليقضي حاجةً لهم، سمع صوت انفجارٍ ضخم ولهيب أحمر يملأ المكان وشظايا تتناثر، التفت إلى الوراء قليلًا فوجد العمارة تنهار على رؤوس أهلي".
أصبحت العائلة كلها تحت أنقاض المنزل، غصّ قلب "مؤيد" ولم يهن عليه أن ينام أهله نومتهم الأخيرة بهذا الشكل، لكن لا سبيل لإنقاذهم أو حتى إخراج جثامينهم، فلا معدات وإمكانيات كافية، كما أنّ الظلام حلّ على المدينة، والتحرك في ليالي الحروب صعب ومستحيل.
وبالرغم من ذلك ومع انقطاع شبكة الاتصالات، ذهب "مؤيد" مشيًا على الأقدام إلى حيث يسكن شقيقه "محمد" في منطقة البلد وسط غزة؛ ليخبره بالفاجعة، وأتيا في اليوم التالي (6 نوفمبر) بحزنٍ يملأ قلبيهما، إلى منزل العائلة، وفعلوا كل ما بوسعهما لإخراج الجثث لكن محاولاتهم لم تنجح.
في يوم السابع من نوفمبر، تمكنت الطواقم الطبية والدفاع المدني بمساعدة "محمد" و"مؤيد"، من انتشال بعض الجثامين من تحت الأنقاض، بعد نحو 5 ساعات من رفع ركام 5 طوابق؛ ليصلوا إلى الطابق الأول الذي كان يعيش فيه أفراد عائلة "الريس".
الذي أخبر "فاطمة" بفقدان أفراد عائلتها شقيقها "مؤيد"، تُخبرنا: "اتصل بي وأخبرني بما حلّ بهم، فُجعت وتألمت، لكنني في الوقت ذاته حمدت الله كثيرًا، بأن حفظ لي مؤيد ومحمد ودعوته أن يُديمهما لي سندًا في الحياة".
وتتابع: "فقط تمكنوا من انتشال جثامين والدي، ووالدتي، وابن أختي كريم (..) صلّوا عليهم ودفنوهم في صباح الثامن من نوفمبر، وعادوا مجددًا إلى المنزل لاستكمال إخراج بقية الجثامين، وقبل أن يكملوا المهمة قصفتهما طائرات الاحتلال بصاروخين وارتقيا على الفور".
بين دفن الوالدين ودفن جثماني "مؤيد" و"محمد" ساعات قليلة، حيث دُفنوا بجانب بعضهم، وبقيت "فاطمة" بحسرتها تشعر بقسوة الغربة ومرارتها، متمنيّةً لو يهبها الله معجزةً تجد بها نفسها إلى جانبهم، لتُلقي نظرة وداعٍ أخيرة عليهم.
يُلهب الدمع مقلتيها وهي تقول: "لم أتخيل حتى لو 1 بالمئة أنني سأخسر أهلي بهذه الطريقة، جميعهم ذهبوا شهداء، كأنه حلم! كابوس! شيء لا يُمكن استيعابه لولا اليقين بأن الله قدّر لنا هذا ولا اعتراض على حكمه".
"عذرًا رمضان.. كانوا بهجة أيامي"
تخوض فاطمة الريس كباقي الفاقدين، حروبًا صغيرة منذ استشهادهم، فمن فقدتهم ولم تتمكن حتى من وداعهم للمرة الأخيرة، ليسوا مجرد أرقام أو مجرد خبر عاجل تتسابق إليه الفضائيات، إنهم قصص مليئة بالحياة والأحلام، والتفاصيل التي لطالما تقاسموا حلاوتها معًا، وهوّنوا على بعضهم مرّها، وتعاهدوا أن يكون السير سويًا خطوة بخطوة، لكنّه القدر!
بنبرةٍ يخنقها الألم، تستذكر ضيفتنا بَهجة الشهر الفضيل مع العائلة كل عام: "كنّا نتشارك جميعًا في تزيين بيتنا لاستقبال رمضان وتجهيز أكلاته وعزائم الأقارب والأصدقاء، نجتمع على سفرة واحدة، ننتظر موعد آذان المغرب وفي قلب كل منّا دعوات تخصّه نرددها والكل يقول آمين، ونطير فرحًا لأن الله أعاده علينا لا فاقدين ولا مفقودين".
كانت تهوّن "فاطمة" الغربة على نفسها وتقضم بُعد المسافات بينهم، بالتواصل الدائم عبر تقنية الفيديو، تشارك أهلها أبسط التفاصيل عن بُعد، وتعيش أجواء رمضان والأعياد وكل المناسبات، وتقول في نفسها: "سقا الله أيام العز لو تعود ونجتمع تاني".
هذا العام حلّ رمضان كئيبًا لا تجد فيه أي كتفٍ من عائلتها تستند عليه، تردف: "مشتاقة لكلمة الله يرضى عليك من والدي، لطعم القطايف من تحت إيدين أمي ونَفسها الطيّب بالأكل، وجلسات أخواتي، ومشاكسات إخواني، لكركعة المطبخ وقت السحور الذي أتلذذ في صناعته، لأنّهم أحبّ وأغلى ما أملك".
وتختم حديثها معنا: "كانت دعوتنا الثابتة كل رمضان من كل عام، الله يعيده علينا زايدين مش ناقصين، لغاية ما حلّ رمضان وعيلتي كلها من المفقودين، لكنّ عزائي أن الله اصطفاهم شهداء كما تمنوا".