من بين أنقاض بيته الذي تهدم تحت وطأة القصف، ينسج أنس القانوع خيوط حكاية تفوح بعطر الإصرار والعلم. عندما تنهار الجدران حولنا، تشتد ضراوة الرياح التي تحمل بأنغامها آهات المدن المنكوبة، لكن هناك دائمًا جمال يولد من بين الأنقاض، جمال العلم الذي ينير طريقنا ويجعلنا نؤمن بأن الحياة تتجدد حتى في ظلمة الدمار.
وفي خضم القصف المتواصل وظلام الحرب الذي يغلف سماء غزة، وجد "القانوع" لنفسه زاوية صغيرة داخل منزله المتهالك، حوّلها إلى معمل علمي مصغر. مبرهنًا أن إرادة الإنسان تتجاوز حدود الجغرافيا والحرب، وأن صموده في ظل هذا السياق القاسي يبرز كرمز للقوة، ويجسد الأمل في زمن اليأس.
وفي هذا العالم المتلاشي، حيث يبدو كل شيء قاب قوسين أو أدنى من الزوال، يعبر أنس عن رغبته الشديدة في تغيير الواقع بفكره وعلمه، بينما يحتضن ظلال بيته المهدم كنقطة انطلاق لأحلام أوسع ومشاريع أعمق.
هكذا يكتب أنس قصة الصمود، في دهاليز الحرب التي تحاصره، مواجهًا التحديات ببسالة علمية وإرادة متجددة، يحول كل حطام إلى فرصة لبناء مستقبل أفضل، يحمل في طياته بذور التغيير والأمل لمجتمعه ولأجيال قادمة.
أنس عوض القانوع (37 عامًا) المقيم في منطقة بئر النعجة غرب مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، جلس أمام جهاز الحاسوب الخاص به لمناقشة رسالته الدكتوراه عن بُعد بسبب العدوان الإسرائيلي، وكانت رسالته بعنوان "تصنيع أسلاك الفضة النانوية واستخدامها في تصنيع مجسات الأشعة فوق البنفسجي".
وأتاح أساتذة "القانوع" من جامعة العلوم الماليزية فرصة مناقشة الرسالة عن بُعد عبر الإنترنت بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
"أطروحة على وقع الصواريخ"..
يستهل حديثه "القانوع" لـ "وكالة سند للأنباء"، "أنا الآن موجود في بيتي المهدم، حيث تم هدمه وتدميره، وبقيت في غرفة استصلحتها للعيش، وغرفة أخرى سقفها مكسور ومهدم، هي التي أنجزت فيها رسالتي وأطروحة الدكتوراه في ظروف صعبة ومعقدة".
ويروي ضيفنا تفاصيل دراسته، "أعيش بدون كهرباء وبدون إنترنت، وأتنقل بين منطقة وأخرى، ومن بيت إلى بيت، ومن مدرسة إلى أخرى، بينما يرافقني القصف المدفعي والجوي والاجتياحات البرية البربرية، بالإضافة إلى المجاعة التي نعيشها، خاصة هنا في شمال قطاع غزة".
ويتحدث بمشاعرٍ من القهر، "هذه الحرب الضروس كان لها أثر كبير وسلبي على بحثي، وكان من المتوقع أن أنهي رسالة الدكتوراه في يناير 2024، ولكن الحرب والإبادة الجماعية أدت إلى تأخيرها حتى شهر يوليو 2024، وكأن عامل الوقت توقف خاصة هنا في شمال غزة".
وعن أبرز التحديات التي واجهتك خلال إعداد بحثك؟ يُجيب: "نقطاع الإنترنت والكهرباء، ونقص البيئة المناسبة للعمل؛ لأن كتابة الأطروحة والبحث والدراسة تتطلب بيئة مناسبة للعمل، وهذه البيئة لم تكن متوفرة بسبب الدمار الهائل الذي حل بمنازلنا. هذا القصف والدمار أدى إلى تدمير تسعين في المئة من البيوت هنا".
ويذكر "القانوع" تفاصيل البحث، "بحثي كان في مجال النانوتكنولوجيا، وهو مجال يعتبر حديث العهد، وقمت بتصنيع أسلاك فضة نانوية، التي لها تطبيقات كثيرة في المسخنات الكهربائية وشاشات التلفاز والهواتف الجوالة، وفي الكواشف لأشعة فوق بنفسجية وتحت الحمراء، ولها أيضًا تطبيقات في شاشات اللمس وكواشف البكتيريا كمضاد حيوي".
ويوضح: "كان من بين تلك التطبيقات تصنيع كاشف يكشف الأشعة فوق بنفسجية في الوسط المحيط، حيث يمكن الكشف عنها باستخدام الكاشف الذي صُنعته".
ويسرد "القانوع"، "كان مشرفي له دور كبير في إرشادي وتوجيهي في بعض النقاط التي كانت تعلق أحيانًا، حيث يُعرف أن في البحث أحيانًا تكون هناك فجوات وثغرات تحتاج إلى جسر، وكان المشرف على اتصال دائم معي، على الرغم من صعوبة الظروف وانقطاع الإنترنت في غزة، وساهم بشكل كبير في استمرارية البحث وإكماله".
ويُكمل "ضيف سند" حديثه، "منذ صغري ومنذ بداية الدراسة الجامعية البكالوريوس أحببت أن أكمل مشواري إلى الدكتوراه، وبذلت جهدًا كبيرًا خلال البكالوريوس وتخرجت بتقدير امتياز في الفيزياء عام 2009، وحصلت على درجة الماجستير في 2011، وعملت كمعيد في الجامعة الإسلامية منذ 2009، ومن ثم تعينت بشكل رسمي".
ويُتابع، "بسبب الظروف المادية الصعبة والحصار والأوضاع في البلاد، تأجلت خططي للالتحاق بالدكتوراه مباشرة بعد الماجستير، ولكن لم أفقد الأمل أبدًا في تحقيق هذا الهدف، وتمكنت من التسجيل في جامعة العلوم الماليزية في عام 2021، والتي كانت البداية لمشواري الدكتوراه".
ويزيد "القانوع"، "وفي يناير 2024، أقدمت على استكمال الكتابة رغم وجود الحرب، وحصلت على الإنترنت من صديق لي كان لديه شريحة إلكترونية، أذهب إليه وأبيت الليالي، وأترك زوجتي وأولادي في النزوح لأستكمل كتابة رسالة الدكتوراه".
ويقول: "خلال شهرين ونصف، أكملت كتابة الرسالة وسلمتها لجامعة العلوم الماليزية التي بدورها سلمتها إلى المناقشين، وفي شهر يوليو، أجريت مناقشتي الدكتوراه في الساعة الرابعة فجرًا، والحمد لله كانت ناجحة، وكانت المناقشة ميسرة وسلسة، وسادت أجواء إيجابية خلالها".
ويضيف "القانوع"، "هنا في فلسطين، يجب علينا كباحثين أن ندعم بعضنا، ونحفز بعضنا، ونعمل جماعيًا لتعزيز البحث العلمي، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي نمر بها، وأنا أشجع على التعاون مع فرق بحثية في الخارج، ولدي فريق بحثي أتواصل معه بانتظام".
ووجه "القانوع" دعوة للشباب جميعًا بضرورة التعاون البحثي الخارجي، حيث تسهم هذه التعاونات في تقديم الحلول والتطوير رغم الصعوبات التي تعترضهم في غزة، مثل الحصار ونقص الإمدادات.
ويُوضح في حديثه أن الفرق البحثية في الخارج تسهم في تعزيز القدرات البحثية في قطاع غزة، وتساعد في تنفيذ الجوانب العملية للأبحاث التي قد تكون صعبة بغزة، مما يتيح التركيز على التحليلات والنتائج والنشر.
ماذا عن ردود الفعل عند مناقشة رسالة الدكتوراه؟، يُجيبنا: "ردود الفعل بعد المناقشة كانت ملهمة ومحفزة، حيث أبدى الكثيرون إعجابهم كيف تمكنت من إتمام هذا العمل الضخم في ظروف صعبة كالحرب، وكان ذلك مثالًا حيًا على عزيمة الإنسان وقدرته على التفوق رغم التحديات".
يذكر "القانوع" : "أرى أن الظروف القاسية، خاصة ظروف الحرب في غزة، هي التي تعلم الإنسان الرجولة. كمن يحفر في الصخر أو كالنبتة التي تنمو من بين الصخور، فسبحان الله، الإرادة تجعل الصعب سهلًا وتكسر الحواجز."
ويشاركنا أنس تجاربه أثناء كتابة رسالته، حيث تأثر بمواقف مؤثرة كاستشهاد البروفيسور الدكتور سفيان تائه، رئيس الجامعة الإسلامية، الذي كان داعمًا كبيرًا له في بداية مسيرته الأكاديمية. ويتذكر كذلك ليلة صعبة حيث كان أطفاله يعانون من الجوع في ظل المجاعة التي كانت تجتاح شمال قطاع غزة، وكيف استمر في كتابته وسط هذه الظروف القاسية، بتوجيهه للثقة بالله وعزمه على تحقيق أهدافه.
ويوجه رسالته إلى الشباب الذين يواجهون ظروفًا صعبة، مشيرًا إلى أهمية التوكل على الله والإصرار على النجاح، بغية تحقيق الأهداف رغم التحديات. يتحدث عن ليلة مناقشته للدكتوراه، التي تخللتها التحضيرات الدقيقة والتوترات بسبب الظروف غير المستقرة، وكيف تكللت بالنجاح بفضل الله رغم التحديات الكبيرة.
ويختتم برؤيته المستقبلية، حيث يأمل في تحسين الظروف للباحثين في غزة، مما سيعزز من فرص تحقيق إنجازات أكبر في مجال البحث العلمي، وبناء مستقبل أفضل لبلده ولأبنائه.