كابوسٌ لا يفارق الذاكرة، ذلك هو الواقع الذي عاشه الطالب رامي مغافل، محاصرًا تحت الركام الذي سحقت جدرانه حلمه وحياته، في تلك الليلة المرعبة، عندما تحول المنزل الذي نزح إليه في جنوب قطاع غزة إلى أنقاض، وجدت روحه نفسها عالقة بين الحياة والموت، جسده ينزف من الدماغ ويعاني من جلطات أدت إلى شلل نصفي في الجهة اليسرى.
بعد شهرٍ كامل من الغيبوبة، استفاق رامي ليواجه أقسى الصدمات: فقدان عائلته بالكامل، لم يتبقَ له سوى أخيه الصغير، الذي يشاطره ألم الفقدان وسط الدمار، أما صديقه الوفي عماد، الذي امتنع عن الطعام حزنًا عليه، فقد رحل هو الآخر، وترك رامي يكتشف خبر استشهاده بالصدفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
في هذا التقرير، تستكشف "وكالة سند للأنباء"، تفاصيل هذه الفاجعة التي حولت حياة رامي إلى سلسلة من الألم والمعاناة والفقد الموجِع.
رامي تحسين مغافل، البالغ من العمر 19 عامًا، كان طالبًا في كلية الهندسة بالجامعة الإسلامية في غزة قبل أن تداهمه الحرب وتغير مجرى حياته.
تعرّض رامي لإصابة بالغة خلال القصف الإسرائيلي على غزة، مما أجبره على الانتقال إلى تركيا لتلقي العلاج، هذه الرحلة إلى بلد بعيد لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل كانت معركة جديدة يخوضها من أجل التعافي، بينما يعاني من آثار الإصابة العميقة على جسده وعقله، يحمل رامي في قلبه أوجاع الفقدان والدمار الذي حل به وبأسرته، محاولًا التكيف مع حياته الجديدة تحت وطأة الألم والغياب.
"شعرت وكأنني في قبر"..
يستهل "مغافل" حديثه بنبرةٍ مُثقلة: "حياتي قبل الحرب كانت جميلة وسعيدة مع عائلتي، كل لحظة معهم كانت مليئة بالفرح والهدوء. أذهب إلى الجامعة، أقضي الوقت مع أصدقائي، نحضر محاضراتنا ونتحدث عن حياتنا اليومية. بعد الجامعة، أعود إلى البيت لأرى عائلتي وأقضي معهم ما تبقى من اليوم. نجلس في المساء، أنا ووالدي وصديقي في المنزل. كانت حياتي بسيطة، مليئة بالحب والسكينة."
ويُكمل "مغافل"، "كل ذلك ذهب عندما جاءت الحرب، واستهدف الاحتلال المنزل الذي نزحنا إليه، وشعرت حينها كأنني في قبر، أحاول رفع الحجر عني ولكن لا أستطيع، ثم فجأة يرتفع الحجر، عندما أقف، أرى العالم من حولي مدمرًا. المنازل مدمرة، والناس تصرخ 'الله أكبر'. يتم نقلي إلى المستشفى، وهناك أصاب بجلطة دماغية في الجهة اليمنى."
يُعبر "ضيف سند": "إصابتي أثرت بشكل كبير على حياتي. قبل الإصابة، كنت أهتم بصحتي ولياقتي، أذهب إلى النادي وألعب كرة القدم مع الأصدقاء. بعد الإصابة، أفقد القدرة على القيام بهذه الأشياء. حياتي كانت تتكون من عائلتي وهواياتي، وفقدت كليهما".
ويوضح "مغافل"، "عندما أفقت من الغيبوبة بسبب إصابتي، "كانت ليلة مظلمة، حين أخبرني ابن عمي نور قائلاً: 'رامي، هل تذكر عندما نزحتم للجنوب؟'، فأجبته بنعم. ثم يُكمل حديثه قائلاً: 'لقد تم استهداف منزلكم، ولم يتبقَ إلا أنت وأخوك الأصغر عبد الله'. أعيش صدمة كبيرة، وأبدأ بالسؤال عن كل فرد من أفراد عائلتي: أبي، أمي، إخوتي. يرد نور: 'كلهم يا رامي'. أكون في حالة من الذهول، أردد: 'كلهم؟ كلهم؟'"
ويصف "مغافل": "كل فرد من أفراد عائلتي كان له دور لا يُعوض. أبي وصديقي عماد يساعدانني في اتخاذ قرارات حياتي. أخي يحيى يشاركني في طهي الطعام، وأختي سارة تشاركني كل تفاصيل حياتي."
ويزيد ضيفنا، "بفضل تربية والدي رحمه الله. كان يقول لإخوتي دائمًا: 'اسمعوا كلام رامي، هو الكبير'. والحمد لله، أخي عبد الله متفهم تمامًا لهذا، ولا يفعل شيئًا دون الرجوع إلي. هذا كله بفضل والدنا."
وعن صديق طفولته، يستطرد "ضيف سند"، "عماد كان الصديق الذي لا يتكرر. منذ عام 2018، لم نفترق لحظة. عند إصابتي ودخولي في غيبوبة لمدة 22 يومًا، يرفض عماد الأكل لحزنه علي. بعد أن استيقظت، كان دائمًا يشجعني على التعافي، ويقول لي: 'رامي، لازلت تحتاجنا وعبد الله يحتاجك'. لكن بعد خروجي للعلاج بالخارج، اكتشفت خبر استشهاد عماد وعائلته. أشعر حينها أن الحياة لا معنى لها بدونه."
ويروي بنبرةٍ موجعة: "أستمد قوتي وأملي أولًا من الله، ثم من أخي عبد الله. أنا من تبقى له، ولا أستطيع أن أضعف لأنني سنده في الحياة. قاعدتي في الحياة أصبحت: 'أخي ثم أنا".
"فترة العلاج في تركيا"..
يقول "مغافل"، عن محاولات علاجه بعد إصابته الخطيرة في الحرب: "كان الوضع صعبًا للغاية. بعد إصابتي تحت الركام، تم نقلي إلى مستشفى محلي في غزة، لكن حالتي كانت تحتاج إلى رعاية طبية متقدمة لم تكن متوفرة هناك. بعد فترة من العلاج، قرر الأطباء أنه يجب نقلي إلى تركيا لتلقي العلاج المناسب."
ويُعبر "مغافل" عن معاناته خلال هذه الفترة: "كانت رحلة الانتقال إلى تركيا بمثابة رحلة مليئة بالتحديات. كل خطوة كانت محفوفة بالمخاطر، وأنا كنت في حالة صحية حرجة، الغيبوبة التي كنت فيها استمرت شهرًا كاملًا، وكان الألم والحزن يرافقاني في كل لحظة."
ويستعرض ضيفنا تفاصيل معاناته في تركيا: "عندما وصلت إلى تركيا، شعرت وكأنني انتقلت إلى عالم جديد، وللأسف، لا أتلقى العلاج حاليًا، رغم أنني بحاجة لإجراء عملية جراحية وعلاج طبيعي، فالمستشفى أخرجتني إلى فندق رغم حاجتي للعلاج المستمر".
ويُتابع "مغافل": "فترة علاجي في المستشفى كانت صعبة جدًا، كان بالكاد يتوفر لنا الطعام في ظل الحرب. أشعر وكأنني مغيب، لا أفهم لماذا أنا هنا ولماذا أحتاج للعلاج. أتحدث مع نفسي: ربما كنا نلعب كرة القدم وحدث شيء ما، وهؤلاء الأطباء يحاولون إصلاح الأمور حتى أتمكن من العودة للعب".
ويُتابع: "خلال فترة العلاج، كنت أشعر بألم عميق بسبب فقدان عائلتي. كان من الصعب عليّ التكيف مع الحياة الجديدة وأنا أواجه تحديات صحية مستمرة. لكنني كنت مصممًا على التعافي والعودة إلى حياتي الطبيعية، مهما كانت الصعوبات التي تواجهني."
ويختتم رامي حديثه: "رحلتي إلى تركيا كانت ضرورية، لكنها لم تكن سهلة. التعافي كان عملية طويلة وصعبة، لكنني كنت أستمد قوتي من الأمل في الشفاء والذكريات الجميلة التي كانت تجمعني بأفراد عائلتي. رغم كل الألم، كنت أؤمن بأن العودة إلى الحياة الطبيعية ممكنة".