الساعة 00:00 م
الأحد 08 يونيو 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.74 جنيه إسترليني
4.94 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
3.99 يورو
3.5 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

"الاستيطان الرعوي".. الوجه الآخر للتهجير والضم للسيطرة على الأراضي في الضفة الغربية

ذاكرة العيد تحلّ ضيفة في الخيام والمائدة مجرّد حنين

بالصور حينما تصبح الحروق أوسمة شرف: صمود إسراء جعابيص أمام الاحتلال

حجم الخط
إسراء جعابيص.jpeg
عمان – إيمان شبير – وكالة سند للأنباء

إسراء جعابيص، امرأةٌ تحارب ببسالة الحياة التي ألقت عليها تحدياتها، حروبها الخاصة وأوجاعها التي رسمت ملامحها المميزة، سيدةٌ مفعمة بالقوة والإصرار، وإن كانت الكاميرات قد وثقت حروقها على وجهها، فإن قلبها الذي جُرح عميقًا من قسوة السجون والاعتقال قد ترك أثرًا أعظم.

"الجعابيص" أسيرة فلسطينية في سجون الاحتلال الإسرائيلي، تحررت بعد 8 سنوات بالسجن، في اتفاق تبادل الأسرى يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2023.

وخلال زيارةٍ خاصة لها في العاصمة الأردنية عمان، كنتُ أرى الشجاعة في عينيها أكثر من أي وقتٍ مضى، في تلك اللحظات التي تتحدث فيها عن فترات من عمرها الضائع في السجون، حيث تكررت معها أيام من الألم والإهانة التي لا تُحتمل، لكن لا شيء أوقف عزيمتها على الوقوف مرةً أخرى.

إسراء، التي وُلدت في 1984، تحمل وراء كُل سطرٍ من حياتها قصةً مميزة تبدأ بالطفولة وتنتهي في السجون، ثم تسعى لتأكيد ذاتها من خلال تحدياتٍ إنسانية لا تقتصر على الحروب العسكرية فحسب، بل تشمل معركةً داخلية مستمرة ضد الصمت والإقصاء.

درست إسراء التربية في الكلية الأهلية في بلدة بيت حنينا، وعملت في دار للمسنين، سعيًا منها لتحسين حياة الآخرين، كانت جزءًا من حياة المجتمع في القدس، تشارك في الأنشطة المدرسية وتمنح الطلاب الأمل بمستقبل أفضل، ولم تكن تتوقع أن حياتها ستنقلب رأسًا على عقب في لحظة واحدة.

وفي 11 تشرين الأول/أكتوبر 2015، بينما كانت في طريقها للعودة إلى القدس من مدينة أريحا، تعطلت سيارتها بالقرب من حاجز "الزعيم"، وكانت تفكر فقط في العودة إلى المنزل، لكن فجأة، أطلقت قوات الاحتلال النيران على سيارتها، ما أدى إلى انفجار أسطوانة الغاز التي كانت داخله، وكان الانفجار هائلًا، وحول جسدها إلى كتلة من الحروق التي أصابت 60% من جسمها، فقدت يديها بالكامل، وتشوه وجهها، حتى أن أذنيها التصقتا برأسها.

ورغم الألم الشديد، أصر الاحتلال على منع وصول سيارة الإسعاف إلى المكان، مما جعلها تنتظر لساعات طويلة تحت النيران والحروق، وأخيرًا، تم نقلها إلى المستشفى وهي مكبلة، وكانت حالتها الصحية حرجة، وفقدت يديها تقريبًا.

وأسوأ ما في تلك اللحظة كان استهزاء الجندية التي فحصتها، حيث قالت: "تستحقين بتر أصابعك". كلماتها كانت كالخناجر التي اخترقت قلبها، لكنها عاهدت نفسها أن تبقى صامدة، ولن تسمح لأي شخص بأن يهز ثقتها بنفسها.

c6b10881-00f3-4af0-9776-f365c3f8c7ee.jpeg
 

"تجربة السجن المريرة"..

في حديثها عن تجربتها في السجن، تتحدث بنبرةٍ حانية وعينيها تتلألأ بألمٍ عميق لـ "وكالة سند للأنباء": "كلما تذكرت تلك اللحظات، أشعر وكأنني أرى تلك الأيام بألمٍ متجدد، اللحظات التي كنت فيها أواجه الإهانة بكل ما لدي من قوة، ومع ذلك لم أسمح لهذه التجربة أن تكون النهاية."

لكن هذا الألم لم يكن فقط جسديًا، بل عكست تجربتها جروحًا نفسية عميقة، "كنت أتعامل مع تهديدات متواصلة، سواء من السجانين أو حتى من السجناء أنفسهم، ومع ذلك، كنت أعتمد على القوة التي منحني إياها والدي، الذي كان يردد دائمًا: 'كوني جريئة في الحق".

أما بخصوص معاناتها الصحية، فتقول إسراء في حديثها عن الإهمال الطبي الذي تعرضت له: "كنت أقول لنفسي أنتِ في السجن، جسدك يواجه المعاناة، وقلوب من حولك مغلقة أمامك، فلا مكان للرحمة، كنت أعاني من الحروق، وكانوا يعطوني مسكناتٍ فقط، لكن لا شيء يمكن أن يخفف من تلك المعاناة سوى إرادتي."

ورغم تلك الصعوبات، كانت إسراء تجد في قوتها الذاتية ما يحافظ على وجودها، وفي مساعدة الأخرين كانت تجد معنى جديدًا للحياة، في كل خطوة كانت تأخذها، تُثبت لنفسها وللعالم أنها ليست مجرد ضحية لتجربة الاعتقال، بل هي امرأة لا يمكن تحطيم إرادتها مهما كان الثمن.

ثم بعد صمت سبقه تنهيدة تعبر قائلة: "التهديدات كانت جزءًا من يومي، ولكن القيد الوحيد الذي قيدني هو الإيمان بالحرية، وبأن أعيش من أجل قضيتي."

"معاناة السجن لا تنتهي"..

واصلت إسراء حديثها عن معاناتها داخل السجن، مشيرةً إلى واحدة من أصعب التحديات التي واجهتها: الإهمال المستمر، قالت: ن كل شيء كان خاضعًا للتفتيش الدائم، حتى الراديو الذي كان لديها، كان عليها أن تخبئه في أماكن غير متوقعة، مثل المجاري أو الحمام، خوفًا من أن تكتشفه سلطات السجن. هذه الإجراءات لم تكن مجرد حذر، بل كانت ضرورية للبقاء على قيد الحياة وسط التوتر المستمر.

وفي حديثها عن السابع من أكتوبر، قالت إسراء إن الفرح الذي انتاب الفتيات عندما سمعوا الأخبار عن الهجوم على المستوطنات، سرعان ما تحول إلى خوفٍ غير مبرر.

وبحسب إحساسها الذي لم يخب، قالتها بصوت خافت، مليء بالأسى: "كانت الأيام تمر ثقيلة، وكلما مرت ساعة كنت أتذكر ما كانت تعيشه غزة من آلام ودمار، كنتُ أشعر بأن تلك اللحظات تفتح أمامها أبوابًا مظلمة لم يقدر أحد على إغلاقها، "غزة وأهلها دفعوا ثمنًا باهظًا".

القلق كان يسيطر عليها، والدموع التي حاولت حبسها كانت تفيض كلما فكرت في أهالي غزة الذين دفعوا ثمناً غاليًا في هذه الحرب، أما داخل جدران السجن، فقد كان الخوف يأخذ شكلًا مختلفًا؛ الخوف من الغاز المسيل للدموع، ومن العقوبات القاسية التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون.

وتحدثت عن العقاب، وكيف كان من أصعب ما تواجهه الأسرى، هو إهمال الجروح أو تأخير العلاج. كانت تتألم عندما ترى أحد الأسرى يعاني تحت هذا الظلم، فتشعر بالعجز أمام تلك الممارسات القمعية.

"كتاب موجوعة"..

ما سر الكتابة عند إسراء؟ تُجيبنا بعد ابتسامة ساخرة، "الكتابة طريقتي الوحيدة لتفريغ مشاعري، وحينما كان الألم أكبر من أن يُحتمَل، كنت أكتب وأمزق ما أكتبه، لكنني بعد ذلك قررت أن أحتفظ بكل ما كتبت، حتى وإن كانت الكلمات تؤلم." الكتابة كانت ملاذها وسط ليل السجن الطويل، وكانت القلم بالنسبة لها نافذة صغيرة نحو الحرية التي تُحرم منها يوميًا.

أما عن كتابها "موجوع"، فقالت إنه كان يتناول كل ما مرّت به من معاناة. كان العنوان تعبيرًا مؤلمًا عن واقعها، فقد كانت كلمة "موجوع" هي السبب في حرمانها من حقوق كثيرة، مثل الزيارة والكنتينة، في إحدى محاكماتها. "لم تكن الكلمة مجرد وصف لحالتي، بل كانت مفتاحًا للظلم الذي وقع عليّ".

ثم تحولت إلى الحديث عن الرسم، وكيف كانت تستخدمه كوسيلة للتعبير عن مشاعرها العميقة. رسوماتها كانت بمثابة نافذة للعالم، تم إرسالها عبر محاميها في بعض الزيارات النادرة. لكن الزيارات كانت شحيحة، وكان الوصول إليها أمرًا في غاية الصعوبة، خاصة في البداية. ومع ذلك، استطاعت أن تحتفظ بتلك الوسيلة للتواصل مع العالم الخارجي.

الكاتبة إسراء.jpeg
 

أضافت إسراء أيضًا، أنها رسمت وجه شجرة، تعبيرًا عن نفسها في السجن، حيث كانت الشجرة تمثل الحياة والأمل في ظل الظلال التي كانت تغمرها. كانت تلك الرسمة بمثابة انعكاس لحالتها النفسية، ولما تعرضت له من إهمال وتهميش.

كانت إسراء تغوص في أعماق ذكرياتها، وكأن كل لحظة مرت بها كانت حكاية ترويها بفرشاة من الأمل. لم يكن الكتاب الذي أنجزته في الأردن مجرد مجموعة من الكلمات، بل كان شهادة على إرادة لم تكسرها سنوات الألم. بين سطوره كانت إسراء تُخاطب روحها: "ما بعد الليل إلا فجره يبتسم"، تلك العبارة التي زرعتها في قلبها، كأنها وعد أن الضوء حتمًا سيأتي بعد الظلام، وأن الفجر ينتظر، مهما طال الليل.

وفي عالم الرسم، كانت إسراء تخلق صورًا تتنفس الحياة، كانت رسوماتها ليست مجرد خطوط وألوان، بل كانت قصصًا تنبض بالألم والأمل، كما في رسمها لأسيرة مسيحية، رغم أنها هي نفسها كانت مسلمة. كان هذا الرسم رسالة كبيرة: الحقوق لا تعرف دينًا، ولا تراثًا، ولا حدودًا. كل لوحة كانت عالمًا من المقاومة، تحدي في وجه القمع، وإصرار على الحياة.

4ffd2541-3e92-4e4d-be5c-9afa1d604025.jpeg
 

"الذكريات قبل الاعتقال"..

عن دعم العائلة، تتحدث إسراء عن أختها أماني بحبٍ عميق، كأن كلماتها كانت بمثابة الأوكسجين الذي كانت تتنفسه وسط الحروب الداخلية، "كانت أماني، ليست مجرد أخت، بل كان وجودها في حياتها يشبه الظل الذي يلاحقني في كل خطوة، دون أن يتركني، دون أن يترك قلبي في عزلة، في أكثر اللحظات ظلامًا، كانت أماني تشدني بكلماتٍ لطيفة، دفعةً للأمام، وكانت توضح دائمًا أن الأمل يمكن أن يكون نورًا في أحلك الأماكن".

وفي عالمها الفني، كانت إسراء تترجم معاناتها إلى ألوانٍ وخطوطٍ، وتروي قصتها عبر اللوحات. كانت رسوماتها تحمل رائحة الأرض، وأصوات المقاومة، ورؤى الحلم في وسط المعركة، المرأة الصامدة، الطفل الذي يرمز للأمل البريء، كانت هذه اللوحات بمثابة رسائل للعالم، تقول فيها إسراء: "هنا لا يزول الأمل، رغم كل شيء."

أما عن المستقبل، فقد أضاءت إسراء بنبرة متفائلة، "رغم كل ما مرت به، أقف على حافة الأمل، وأتعلم أن الجروح ستلتئم، وأن الفجر لا بد أن يأتي، وكأن كل ألم مررت به كان حبة رمل في صحراء الحياة، ستسقط بين يديي لتصبح جزءًا من بناء عالم جديد، فحلمي لم يتوقف عند نقطة العلاج فقط، بل أطمح في مواصلة العمل الفني، وإلهام الآخرين ليعيشوا الحياة كما يجب، رغم كل التحديات".

وقبل أن ينتهي اللقاء بها، قالت إسراء كأنما تسكنها قوة غير مرئية: "لن يكسرني شيء"، إيمانها العميق بقوة العائلة، وبالناس الذين يقفون بجانبها، كانت أشبه بسياجٍ واقٍ تحمي به نفسها من تقلبات الزمن.