في لحظة اختلط فيها الحزن بالقهر، غابت الصحفية الفلسطينية إيمان الشنطي عن الحياة، لكنها بقيت حاضرة بكل قوة في الذاكرة والوجدان، لم يكن استشهادها مجرد خبر عابر؛ بل كان صدمة هزّت كل من عرفها أو قرأ كلماتها الأخيرة التي كتبتها قبل ساعتين من رحيلها: "معقول إنه لساتنا عايشين لحتى الآن... الله يرحم الشهداء".
وفي 11 ديسمبر/ كانون الأول 2024 الجاري، استشهدت الصحفية إيمان حاتم الشنطي مع أطفالها وزوجها، بقصف طيران الاحتلال لعمارة الملش في منطقة الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة.
حينما ارتجف هاتف إحدى صديقاتها المقربات ورأت اسم المتصلة، شعرت بأن شيئًا ما ليس على ما يرام، ارتجفت يدها وهي ترد على الاتصال، لتسمع صوتًا مألوفًا ينادي باسم إيمان، النبرة المثقلة بالخوف والحزن كانت كافية لتسري الرعشة في قلبها، لكنها لم تنتظر الكلمات تكتمل، فقط بادرت بالسؤال الملهوف: "مالها؟" وكأنها تحاول دفع الاحتمالات بعيدًا؛ لكن الإجابة جاءت مباشرة، كالسهم الذي يخترق حصون الإنكار: "استشهدت".
هكذا وصل خبر استشهاد الصحفية إيمان الشنطي إلى صديقاتها وزملائها، الذين رفضوا في البداية تصديق الخبر، خاصةً وأن إيمان كانت قبل ساعتين فقط قد نشرت عبر حسابها على فيسبوك منشورًا، ولكنها لم تكن تعلم أنها ستلحق بهم بعد ساعات، تاركةً وراءها موجة واسعة من الحزن والنعي المؤثر الذي اجتاح وسائل التواصل الاجتماعي، لتروي حكاية الصحفية التي جمعت بين عدستها وقلمها صرخات غزة وجراحها.
"وكالة سند للأنباء" أجرت حديثًا مع صديقات إيمان المقربات، اللاتي استحضرن تفاصيل حياتها وشهادتهن عن اللحظات الأخيرة قبل رحيلها.
"عفوية الشنطي"..
تستهل الصحفية آية صبري، حديثها بإحدى اللحظات الخاصة مع إيمان قبل استشهادها، حيث خرجتا معًا مع بعض الصديقات في لقاء مميز، تتذكر آية قائلة: "كانت الجلسة مليئة بالضحك والذكريات، ضحكنا كثيرًا، وكانت قهوة إيمان التي جلبتها لذيذة جدًا، كانت تصب لي منها كلما انتهى فنجاني، وتخبرني أنها استثنائية ومصنوعة بحب".
وتستمر "صبري"، في الحديث عن عفوية إيمان، مشيرة إلى أن كل واحدة من صديقاتها كانت تذكرها بمواقف نبيلة شهدتها منها خلال الحرب، مبيّنة أن إيمان كانت مشهورة بحبها الكبير لمساعدة الآخرين وتقديم الخير.
وتسترجع "صبري"، أيضًا اللحظة الأخيرة التي قابلت فيها إيمان قبل استشهادها، حيث كانت إيمان تجلس بمفردها في المنتزه، شاحبة ومتعبة.
وبمشاعر من الألم، تسرد "صبري": "بكت إيمان عندما سلمت عليها، وقالت لي 'أنا متعبة ووحيدة، متعبة جدًا'".. شربنا القهوة معًا، حاولت أن أغير مزاجها ببعض المزاح، ثم ذهبت، ولم ألقها إلا نائمة في مكان التكفين".
وتتذكر "صبري" لحظة معينة أثرت فيها بشكل كبير، وهي المرة الأولى التي رأت فيها إيمان خلال الحرب، كانت في شارع مليء بالبسطات في ذروة المجاعة، حيث لاحظت إيمان حالتها المادية وسألتها عن حالها بكل اهتمام، "قلت لها الحمد لله أننا بخير، تحدثنا وتفرقنا، ثم وجدت ورقة نقدية في يد طفلتي، قالت لي إن إيمان همست لها بأن تعطيني إياها دون أن أخبرها، وعندما بحثت عنها في السوق، اختفت فجأة، عند تواصلي معها لاحقًا، أخبرتني ألا أخبر أحدًا، وقالت إنني سأحزن إذا علمت".
وعن صفات إيمان، تصف "صبري"، بأنها كانت جميلة وخفيفة كالفراشة، دائمًا تتحرك بنشاط وحب تجاه الآخرين.
وتُكمل "صبري"، عن صفات إيمان التي جعلتها محبوبة بين زميلاتها، مشيرة إلى أنها كانت صديقة نادرة استثنائية. "إيمان كانت تتأثر بطريقة غريبة بكل شيء، بكل من حولها، بظروفهم ومشاكلهم، وكانت تضع نفسها في مكان الآخر وتعيش ظرفه، وهو ما كان متعبًا لها".
وتضيف "ضيفة سند"، أن إيمان كانت دائمًا المبادرة في بناء علاقات مع الناس، حيث كانت تسأل وتحدث الجميع بلا تحفّظ أو تمييز، وتساعد الجميع دون اعتبارات لأي شيء سوى سعادة من حولها، كما كانت إيمان تلتهم الروايات والكتب خلال الحرب كوسيلة للهروب المؤقت من الموت، وكانت دائمًا تشارك آية بأسماء الروايات التي تعجبها لتقرأها.
أما عن آخر تواصل لها مع إيمان، فتذكر آية أنه كان عبر مجموعة صديقاتهن، حيث كانت إيمان قد وضعت فيديو تشارك فيه كيف تستمتع بصلاتها وتستلذ بها بعيدًا عن كونها واجبًا، "كانت سعيدة ومطمئنة، وعبرت عن سعادتها بالفيديو من خلال تعليقاتها".
وبعد استشهاد إيمان، تقول "صبري" بأسى إنها عندما تلقت اتصالًا من شقيقة إيمان في جنوب قطاع غزة، شعرت وكأن إيمان نفسها هي التي تتحدث، بنفس النبرة والصوت الذي تعرفه جيدًا، وكانت شقيقتها تطلب صورة لإيمان، وكان ذلك من أصعب اللحظات التي عشتها".
وتصف آية ألم الوداع عن بعد بقولها: "الوداع عن بعد قاسٍ، وقاسٍ جدًا، لا يمكن للإنسان أن يعتاد مشاهد التكفين والغياب".
وتتابع بحرقة: "لقد ودعت من قبل زوجي، وكان الأمر صعبًا جدًا، لكن وداع إيمان أضاف جرحًا جديدًا لا يُشفى".
"حظيت بكفن وقبر"..
تسرد الصحفية أمل حبيب، عن علاقتها بالشهيدة إيمان الشنطي، وتصفها كزميلة مميزة في مجال العمل الإعلامي، حيث تميزت إيمان في إعداد البرامج الإذاعية لفترة طويلة، وتعبر أمل عن التغيرات التي طرأت على العلاقات الإنسانية خلال الحرب، لا سيما في شمال غزة، حيث أصبح الجميع يبحث عن الوجوه المألوفة، وتوضح كيف توطدت العلاقة مع إيمان خلال تلك الفترة، مشيرة إلى أنهم كانوا يلتقون بشكل عابر في ظل الظروف الصعبة، وكان كل لقاء يشعرهم بالسكينة ويذكرهم بحياة ما قبل الحرب.
وتتذكر "حبيب" بكل تأثر المواقف الصعبة، وخاصةً عندما نزحت من حي الشجاعية، تقول: "كان هذا أصعب المواقف التي مررت بها، وفي تلك اللحظة تلقيت أول اتصال من إيمان، لم أنسَ أبدًا خوفها عليّ، وسؤالها المستمر عن حالنا".
وتضيف "حبيب"، أن إيمان كانت دائمًا تهتم بكل تفصيل صغير في حياتها، حتى عندما لم يتمكنوا من أخذ علف قططهم أثناء النزوح، أظهرت إيمان موقفًا إنسانيًا فريدًا عندما وعدت بإحضاره لابنها عمر، "حتى الآن، يتذكر عمر هذا الموقف بامتنان."
وتتابع "حبيب" حديثها عن إيمان في فترة الحرب، فتوضح أنها كانت تبحث عن فرصة للعمل، لكنها كانت أيضًا سباقة في تقديم المساعدات الخيرية، خاصةً للنازحين والمتضررين من الحرب، وتتحدث عن إيمان كإنسانة تحاول دومًا أن تقدم الأفضل للآخرين، حتى في أصعب الظروف.
وعندما تتذكر أمل استشهاد إيمان، يظهر الحزن بوضوح على صوتها، تذكر كيف تم استهداف منزل إيمان، واستشهادها مع زوجها وابنها البكر وطفلتها ألمى، بينما نجت ابنتها بنان، التي كانت تتلقى العلاج في المستشفى في حالة متوسطة.
وتُعبر "حبيب"، "مشهد الوداع كان قاسيًا جدًا، لكن الحمد لله، كان لإيمان وداع كريم، وحظيت بكفن وقبر، وهو أمر نادر في شمال غزة حيث نفتقد للكثير من الأشياء الأساسية، حتى الأكفان."
وتختم ضيفتنا حديثها عن أحد المواقف العالقة في ذاكرتها، حين كانت في زيارة لصديقة استشهد شقيقها في الحرب، "كانت إيمان مصرة على أن ترتقي مع عائلتها، وكان حديثها الدائم أنها ستغادر رفقة زوجها وأولادها، وأن الموت جماعة هو الخيار الأفضل".
وتُعبّر أمل عن شدة الألم الذي شعرت به في تلك اللحظات، وتؤكد أن فراق إيمان كان أكثر من مجرد خسارة صديقة، بل كان خسارة لأيقونة إنسانية في أصعب لحظات الحياة.
"وداع مؤثر"..
أثار خبر استشهاد الصحفية الفلسطينية إيمان الشنطي موجة واسعة من الحزن والأسى بين زملائها وأصدقائها، حيث ملأت مواقع التواصل الاجتماعي منشورات النعي والتأبين التي عبّرت عن فاجعة خسارتها. كانت إيمان رمزًا للإنسانية والعمل الصحفي النبيل، وشكّلت مواقفها وشخصيتها مصدر إلهام للكثيرين، مما جعل رحيلها صدمة تجاوزت حدود قطاع غزة.
ما زاد من وقع الخبر هو المنشور الأخير الذي شاركته إيمان عبر حسابها على "فيسبوك"، قبل استشهادها بساعتين فقط، وكتبت فيه: "معقول إنه لساتنا عايشين لحتى الآن… الله يرحم الشهداء". كلماتها هذه أصبحت بمثابة رسالة وداع مؤثرة، حملت إحساسها بالقدر القادم، وتحوّلت إلى رمز للحالة الإنسانية التي تعيشها غزة في ظل الحرب.
عبّر زملاؤها الصحفيون عن حزنهم العميق لفقدانها، وأكدوا أنها كانت مثالًا للتفاني والشجاعة في العمل الصحفي، خصوصًا في الظروف الصعبة التي يعيشها الإعلاميون في قطاع غزة. وكتبت إحدى صديقاتها في نعيها: "إيمان هنا برفقة الراحلين، بلا شقيق دم يودعها، بلا انكسار أم يُكمل المشهد، شتتنا الأغراب، فرقوا جمعنا وشمل عائلاتنا، تخيل أن لا أحد من عائلة إيمان هنا في شمال القطاع؟؟ لا أحد حرفياً، نحن نُباد، ونُقهر معًا".