من بين الزقاق الضيقة والجدران الرمادية المتلاقصة في مخيمات اللاجئين بالضفة الغربية، تتجدد دماء الثوار الذين ينتفضون في وجه الاحتلال منذ نشأتها، سطروا ولا زالوا بطولات خالدة في تاريخ النضال الفلسطيني، مجددين عهد العودة لأراضيهم التي هجّر منها أجدادهم، بقوة السلاح ولا شيء غيره.
وتصدرت مخيمات الضفة الغربية عبر السنوات الماضية الحالة النضالية بالضفة الغربية، محتضنة المجموعات القتالية والكتائب التي انصهرت فيها الفصائلية، وتوحدت في خندق الدفاع والمواجهة أمام آلة القتل الإسرائيلية.
وتصاعدت عمليات المقاومة التي خرجت من قلب المخيمات بالضفة منذ بدء العدوان على قطاع غزة، حيث نفذت المجموعات القتالية العديد من الكمائن وعمليات إطلاق النار وتفجير العبوات الناسفة بآليات الاحتلال وخاضت اشتباكات مسلحة، ألحقت خسائر كبيرة في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي وآلياته.
فمن شمال الضفة الغربية، برزت كتيبة جنين، وكتبية بلاطة، وكتيبة طولكرم، ومثيلاتها في مخيم الفارعة بطوباس وإلى شرق الضفة حيث مخيم عقبة جبر بأريحا، إلى جانب البلدات والقرى التي لم تخل من بأس المقاومين الذين حملوا على عاتقهم حماية الوطن.
رمزية المخيم..
الكاتب والصحفي محمد القيق، يرى أن للمخيمات رمزية تتمثل بثلاثة عناصر، أولها رمزية اللجوء التي جاءت على وقع النكبة والمجازر التي وقعت في فلسطين المحتلة، مشيرًا إلى أن هذه الأحداث بقيت في العقل الجمعي للسكان في هذه المخيمات، وبنت الفكرة حول العوده والوطن.
ويضيف القيق في حديثه لـ "وكالة سند للأنباء": "الرمزية الثانية للمخيمات هي الحالة الوطنية العامة التي نشأت بين الناس في المخيم واتصلت بانتفاضتين الأولى والثانية، وبالتالي بات الاحتكاك مزدوجًا ما بين المدن والقرى في الانتفاض ضد الاحتلال وبين العقل الجمعي حول الهجرة واللجوء".
أما البناء الثالث المميز لبيئة المخيمات من وجهة نظر ضيفنا، فهو "العنصر البشري في تفاعل الانتفاضة، والمتمثل بازدحام المخيم وبناء العلاقات الاجتماعية الترابطية، وحاله الناس مع بعضها، فكلهم سواسية ليس فيها غني ولا فقير، إضافة لبقاء الفكر المقاوم وتسلسله، فهذا أيضا يدفع لوجود عدد من الشهداء عدد من الجرحى عند اقتحام المخيم".
ويردف "ضيف سند": "مما لا شك فيه حينما نقرأ معادلة المخيمات، نجد أن مؤسس حركة حماس الشيخ الشهيد أحمد ياسين، والقيادي وجمال منصور من مخيم بلاطة بنابلس، والعديد من الشخصيات المهمة المركزية في الضفة الغربية وغزه كانوا من اللاجئين وأهاليهم كانوا من اللاجئين، فبالتالي باشروا بالإعداد والتثقيف والتعبئة".
ويسترسل: "نشأت فكرة التسلسل المقاوم في الإطار النفسي للابن ولابن الابن، وهذا الذي خلق ديمومة المواجهة في المخيمات".
رفض الترويض والتطبيع..
ويشير الكاتب الصحفي للبيئة الخاصة للمخيمات، والتي نشأت عليها الأجيال المتلاحقة، ويبيّن: "لو نظرنا مثلا للأسير القيادي زكريا الزبيدي وابنه وشقيقه، والأسير القيادي جمال أبو الهيجا وعائلته وهم من العائلات المقاومة مخيم جنين، وأمثله كثيرة في مخيمات عسكر وبلاطة والدهيشة ومخيمات طولكرم".
ويزيد: "المخيمات تؤكد أن العقل الجمعي للبيئة تفرز فكرة فردية للشباب، وهذا يعطيهم أن معادلة المواجهة ليست مرتبطة بمعادلة الخضوع، وهذا الأمر مهم جدا في تعريف الشاب الفلسطيني في المخيم للمشهد الفلسطيني، وتساؤله هل السلطة الفلسطينية على تناسق مع المخيمات؟".
ويمضي بالقول: "حينما يجد هذا الشاب أن السلطة الفلسطينية على تناقض، فهو يزداد في المواجهة، وفي نفس الوقت يرفض فكره الترويض والتطبيع، خاصة أن المخيمات أقل حاجه للسلطة والتزاماتها من ابن المدينة أو ابن القرية".
وحول سؤالنا عما إذا كان هناك إمكانية لإيقاف معادلة المقاومة بالمخيمات، يجيب القيق: "لا يمكن أبدًا؛ لأن لديهم حق العودة وهذا لم يتحقق، ولديهم حق الدفاع عن النفس فهناك اقتحام للمخيمات من قبل الاحتلال وهذا الاقتحام لم يتوقف".
ويكمل: "لدى المخيمات تاريخ يحاولون تسجيله بالانتصار على الإسرائيلي بالمقاومة، والعمل المقاومة بالمخيمات بالوراثة، بالتالي لن توقفه الاقتحامات ولا غيرها".
ودليل على ذلك، يحدثنا ضيفنا: "مخيم جنين أعيدت الكرة عليه مرات عديدة من قبل الاحتلال الإسرائيلي واقتحموه ولم ينجزوا أي شيء منه، ودُمّر بالكامل في عام 2002، ومن كانوا أطفالًا حينها باتوا شبابًا ويقاومون".
ويقول: "الاحتلال فشل في صناعة الفلسطيني الجديد وفلسطين الجديدة على طريقته، بل ظهر الفلسطيني الجديد يقول حط السيف قبال السيف إحنا رجال محمد ضيف".
مخيم جنين.. عصي على الانكسار
وتطرق القيق في حديثه لما يتعرض له مخيم جنين من حملة أمنية لأجهزة السلطة ضد من تصفهم الخارجون عن القانون، قائلًا: "السلطة ترتكب أخطاءً كبيرة في مواجهة المخيم وإن كانت هذه المواجهه تحت إطار محاوله إبقاء الروح في نفس السلطه أمام المجتمع الدولي والإسرائيلي ولكن الأمر أكبر بكثير".
ويوضح: "الإسرائيلي لم يعد ينظر للضفة الغربية على أن السلطة يجب أن تحكمها، وإنما لضم الضفة وطمس السيادة الفلسطينية، وهذا مخالف لما تقوم به السلطة على أرض الواقع في المخيم".
ويشدد القيق على أن "الأهم من الذهاب باتجاه المخيمات، أن يكون هناك حالة وحدة وطنية وتوافق على تعزيز التحرر الوطني".
الاحتلال معني بنشر الفوضى بالضفة الغربية ونشر الفتنة ليسرع من عملية الضم، بالتالي ما لم يقدر عليه جيش الاحتلال لن تستطيع أن تقوم به السلطة الفلسطينية بهذه الامكانيات البسيطة وحتى برؤيتها التحررية.
وتابع: "ابن الجهاز الأمني الفلسطيني الذي ينتمي لفتح دخل الجهاز بناء على نظرية التحرير وليس بناء على نظرية الاقتتال الداخلي، وهذا الاعتقاد مرفوض لانه يضر النسيج الاجتماعي ويعزز الإسرائيلي فرصة جديدة لمحاوله السيطرة".
المقاومة بالمخيم.. حالة مجتمعية..
من جهته، يقول الباحث والمحلل السياسي سليمان بشارات، إن المخيمات الفلسطينية بقيت محافظة على طابع هويتها النضالية إضافه لرمزيتها في التاريخ الفلسطيني.
ويتفق بشارات مع "القيق بأن المخيمات الفلسطينية ارتبطت بمجموعة من المسميات والرمزيات، كحق العودة وحالة المواجهة والصمود.
ويضيف في حديثه لـ "وكالة سند للأنباء":هذه الرمزيات انعكست على هوية كل من يعيش ويولد داخل المخيم وهذه نقطه بالغة الأهمية، وبقيت موجودة حتى هذه اللحظة وأصبحت جزءًا من ثقافة المخيم وثقافه الإنسان داخله، وهذه واحدة من القضايا التي سهّلت عملية الاندماج الكامل لأهالي المخيم في المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي".
ويرى بشارات أن الاحتلال الاسرائيلي يستهدف المخيمات حتى يحاول أن يؤثر على البعد الرمزي وعلى الارتباط المعنوي والثقافي ما بين المواطن العادي وما بين المخيم.
وحول حديثه عن الأجيال الناشئة بالمخيمات، والتي تشارك في تكوين المجموعات القتالية، يقول بشارات: "ارتباط المخيمات وأطفال المخيمات والشباب هو جزء من حاله التكوين المجتمعي داخل المخيم، وعندما يولد الأطفال ضمن بيئة كلها مهيئة للانخراط في العمل النضالي فبشكل اعتيادي ينخرط هؤلاء الأطفال منذ نعومه أظفارهم في العمل النضالي وعندما يكبرون يكبرون على هذا الفكر وهذا وهذه الرؤيه وبالتالي ذلك يجعلهم أكثر انخراطًا في العمل النضالي بشكل او باخر".
ومن وجة نظر ضيفنا، فإن التركيبة النفسية والمجتمعية والأسرية إضافة لعوامل ترتبط في أن كل عائله من عائلات المخيم تعتبر نموذجًا للنضال والتضحية، وبالتالي يرتبط أفراد العائلة بالحالة النضالية، كتعبير عن الوفاء لمن ضحى وقدم من نماذج سابقة".