المسجد الأقصى ليس مجرد حجارةٍ وساحات، بل ساحة رباطٍ لا تهدأ، وموطئ أقدامٍ تأبى الانكسار، في أرجائه، يعتكف المصلون، يمضون لياليهم في صلاةٍ وخشوع، لكن الاحتلال لا يسمح لهم حتى بهذا القليل، الاقتحامات تتكرر، القنابل الصوتية والغاز يحيلان ساحاته إلى ميدان قمع، والاعتقالات تطال كل من يُصرّ على البقاء.
عشرات الجنود المدججين بالسلاح يقتحمون المكان، يطاردون المصلين، يدفعونهم بعنف، يعتقلون الشباب دون سبب سوى أنهم اختاروا البقاء، لا فرق بين عجوزٍ يحتمي بجدران المصلى، أو شابٍ يسجد تحت وابل الضربات، فالهدف واحد: تفريغ الأقصى من روحه وروّاده، ومع ذلك، يظل الرباط قائمًا، يتجدد مع كل فجر، كأنما باتت هذه الساحات ميدانًا لمعركة الإرادة، لا يخوضها إلا أولئك الذين أدركوا أن وجودهم هنا ليس مجرد عبادة، بل رسالة صمود في وجه الاحتلال.
ومنذ بداية شهر رمضان الفضيل، تعرض المسجد الأقصى المبارك لمجموعة من الاعتداءات الإسرائيلية التي طالت هويته الإسلامية والمقدسات في داخله.
وشهد المسجد الأقصى ثلاثة أنواع من العدوان الإسرائيلي، والتي تسلط الضوء على تصاعد التهديدات التي يتعرض لها، مما يستدعي وقفة جادة من الأمة الإسلامية للدفاع عن هويته وحمايته، ووفقًا لما ذكرته مؤسسة القدس الدولية.
وفي تفاصيل الاعتداءات، تم منع الاعتكاف في الجمعة الأولى من شهر رمضان، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ عام 2014، حيث تعرض المصلون والمعتكفون للطرد بالقوة.
هذا التعدي تلاه الاعتداء الثاني الذي تمثل في السطو على سماعتين في المصلى المرواني في 9 مارس/آذار الجاري، حيث سعت قوات الاحتلال إلى تعطيل الصلاة ومنع الصوت من الوصول إلى الحشود، في محاولة للسيطرة على أعمال الإعمار في المسجد الأقصى، وهو أمر يندرج ضمن صلاحيات الأوقاف الإسلامية التابعة للأردن.
أما الاعتداء الثالث فقد تجسد في فرض حصار جديد على المسجد الأقصى، حيث وضعت قوات الاحتلال ثلاثة أطواق عسكرية حول المسجد ومحيطه، مما أدى إلى تقييد وصول المصلين وتقليص عددهم بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات السابقة، إضافة إلى ذلك، فقد مُنع إدخال وجبات السحور والإفطار، كما جرت دوريات تفتيش داخل المسجد لمضايقة المصلين.
"وكالة سند للأنباء" تحدثت مع عدد من المرابطين في المسجد الأقصى، الذين أكدوا أن الوضع في المسجد يشهد تصعيدًا مستمرًا من قبل قوات الاحتلال، وأشاروا إلى أن الأيام الأخيرة شهدت تشديدات أمنية غير مسبوقة.
"أصحاب الحق"..
تقول المرابطة المقدسية زينة عمرو بنبرة حازمة، نحن نعتبر أنفسنا أصحاب حق في المسجد الأقصى، ومع ما نواجهه من ملاحقات واستهداف مستمر من قِبل الاحتلال، إلا أن إصرارنا يزداد يومًا بعد يوم على الصمود في رباطنا فيه.
وفيما يتعلق بصمود المقدسيين، تقول "عمرو"، "المسجد الأقصى هو الذي يمنح المقدسيين القوة والثبات، ولذلك فإنه يشكل الحصن الذي يحميهم من مخاطر الاحتلال، خاصة في ظل محاولاته نشر الفساد والانحراف بين الشباب".
أما على مستوى التربية العائلية، توضح "عمرو" مبتسمة: "من تجربتنا الشخصية، نؤمن بأن أفضل طريقة للحفاظ على أبنائنا وتعزيز وعيهم بدورهم الحقيقي، هي ربطهم بالمسجد الأقصى من خلال العبادة أو خدمة الزوار".
وتُكمل بفخر: "بحمد الله، جميع أبنائي يعملون في خدمة الأقصى، لا سيما في شهر رمضان، حيث يشاركون في لجان النظام لتسهيل حركة الوافدين وتنظيم الصفوف، إضافة إلى توجيه الزوار الذين يأتون لأول مرة".
وفيما يتعلق بتجربتها الشخصية مع الأقصى، تضيف "عمرو" بعزيمة: "رغم أنني أُحرم من دخول المسجد الأقصى في كثير من الأحيان، إلا أنني لا أتوقف عن محاولة الوصول إليه بكل السبل المتاحة".
وتتابع: "في بعض الأحيان أتمكن من الدخول دون تفتيش، عندما لا يتعرف الجنود على هويتي، ولكن هذه الفرص نادرة".
وتُكمل بنبرة ثابتة: "ومع كل محاولة، ورغم العقبات التي أواجهها، لا يمكن لأي شيء أن يثنيني عن التمسك بالأقصى، بل يزيدني إصرارًا على أداء دوري تجاهه مهما كانت الظروف".
وبالحديث عن إجراءات الاحتلال الأخيرة، تقول "عمرو": "أثرت هذه الإجراءات بشكل كبير على وجود النساء، وكذلك على المرابطين والشباب، الاحتلال يسعى جاهدًا لجعل المسجد الأقصى فارغًا، حتى أنه وصل إلى حد إبعاد بعض الحراس وموظفي الأوقاف عن الأقصى، مما حرّمهم من أداء عملهم ومصدر رزقهم، لكن على الرغم من هذه المحاولات، يبقى الأقصى، خصوصًا في شهر رمضان، ملاذًا للجماهير."
وتضيف ضيفتنا: "هناك إجراءات أكثر قسوة، مثل منع الكثير من النساء من الدخول، وخاصة في فترات الاقتحامات التي تبدأ من الصباح الباكر، الاحتلال يحاول إبعاد أي شخص، سواء كانوا شبابًا أو نساءً، وفي بعض الأحيان حتى الأطفال يمنعون من الدخول إلى المدارس القريبة من المسجد."
وتوضح عن أوقات الاقتحامات قائلة: "هذه الجولات تبدأ منذ السابعة صباحًا وتستمر حتى ما قبل أذان الظهر، ثم تعود مجددًا بعد صلاة الظهر، الاحتلال يركز على فرض قيود مشددة على الداخلين إلى المسجد الأقصى، سواء كانوا مرابطين أو غير مرابطين."
وتُبين: "عندما نتحدث عن رمضان، تكون الإجراءات أقل تشددًا في بعض الأحيان، حيث يمكن لبعض الوافدين دخول المسجد الأقصى بسهولة أكبر، لكن على الرغم من ذلك، فإن الإجراءات لا تزال شديدة على العديد من الأشخاص، حتى أنني شخصيًا منذ أكثر من عام ونصف لم أتمكن من دخول المسجد الأقصى، رغم أنني حاولت الدخول عدة مرات في رمضان، لكنني أُمنع في كل مرة".
"رغم كل الإجراءات القمعية، مثل الحواجز والاعتقالات التي تعرضنا لها، لا يزال الأقصى في قلبنا، ولن نتوقف عن الصلاة فيه"، تقول "عمرو" وهي تروي عن تجربتها الشخصية في مواجهة ممارسات الاحتلال، فهي نفسها تعرضت لعدة اعتداءات خلال السنوات الماضية، بما في ذلك ضربها وتكسير أسنانها في 2014، ثم إصابتها في 2017 أثناء هبة باب الأسباط.
ماذا عن لوازم الصلاة داخل المسجد الأقصى، توضح "عمرو": "نرى كيف يُمنع إدخال لوازم الصلاة مثل الكراسي وبعض الأدوات البسيطة التي يحتاجها المصلون، هذه القيود تتزايد بشكل خاص في شهر رمضان، مما يعيق الفلسطينيين من إتمام عباداتهم براحة."
وتُكمل ضيفتنا أنه "في الآونة الأخيرة أصبح الاحتلال يشدد قبضته الحديدية على المسجد الأقصى ويحاول فرض سيطرة كاملة على كل مكوناته، سواء في الداخل أو الخارج، ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل نجد أن الاحتلال يحاول التحكم بكل شيء يتعلق بالمسجد الأقصى، بما في ذلك حتى الإفطارات التي تجري في شهر رمضان، حيث يقوم بتعطيل الوجبات وأحيانًا منعها من الدخول أو تأخيرها، ما يسبب تأخيرًا في الإفطار أو حتى في وجبة السحور."
كيف يُمكن أن تصفين لحظات الاعتكاف والرباط في الأقصى، تُجيبنا: "المجرد دخول المسجد الأقصى يشعرك وكأنك في عالم آخر، الشعور هذا يتضاعف في رمضان، حيث بركة المكان والزمان تجعل القلوب تتعلق به بشكل أكبر، هناك خصوصية في الشهر الكريم تزيد من هيبته، فالنفحات الروحية في المسجد الأقصى تكون في أوجها".
وتسترسل عن طبيعة الأجواء في رمضان: "أصوات التراويح، الصلاة، الشعور بالسكينة والوقار، كل ذلك يعزز من قداسة المكان ويزيد من ارتباطنا به، حتى هواء المسجد يختلف في رمضان، كما أن الإفطار فيه يحمل معاني عميقة تجعله أكثر من مجرد وقت للراحة، بل هو لحظة من التأمل الروحي".
وتختتم قائلة: "المسجد الأقصى في رمضان لا يقتصر على كونه مكاناً للصلاة فقط، بل هو قلب نابض بالإيمان والروحانية، وهذه البركة لا تخفى على أحد، سواء من داخل القدس أو من بعيد".
"القائمة السوداء"..
لا يختلف الحال كثيرًا مع المرابطة المقدسية منتهى أمارة، إذ توضّح طبيعة التقييد في دخول المسجد الأقصى: "تستمر القيود المفروضة على دخول المسجد الأقصى المبارك طوال العام، ولكن تزداد شدتها في أوقات الأعياد، ويُمنع كثير من الشخصيات البارزة التي تضعها قوات الاحتلال في "القائمة السوداء"، وتصفها هي بـ "القائمة الذهبية المتميزة"، موضحةً أن الشخصيات هي التي رفضت الخنوع للاحتلال وتمسكت بحقوقها، ولكن الاحتلال يحاول بكل قوته تضييق الخناق عليهم.
وتضيف "أمارة"، "بالنسبة لي، لم أتمكن من دخول المسجد إلا بعد إبعادي لأكثر من عام كامل، ومؤخرًا يتم تهديدي بإبعاد جديد يمتد لعدة أشهر، ومع هذا، فإننا نرفض الخضوع ونصر على العودة".
وتُكمل ضيفتنا" "حتى في الأيام التي نتمكن فيها من الوصول إلى المسجد الأقصى، يعترض الاحتلال طريقنا على الأبواب، يوقفوننا ويقومون بتفتيش الهويات بدقة متناهية، وفي بعض الأحيان يمنعوننا من الدخول بحجة أننا نسبب "ارتباكًا" عند دخولنا، كما حدث في ذكرى الإسراء والمعراج عندما تم منعي لمجرد أنهم اكتشفوا هويتي".
وكيف يكون الحال في رمضان، تُجيبنا "في شهر رمضان، يزيد الاحتلال من مضايقاته، حيث يمنع العديد من أهل الضفة الغربية من دخول المسجد الأقصى، ويقتصر السماح للنساء اللواتي يزيد عمرهن عن 50 أو 55 سنة، حتى في صلاة الفجر، يتم منع العديد من الشباب، ويُجبرون على الصلاة في الخارج".
"تصعيد جديد"..
يقول عضو "لجنة القدس" في هيئة علماء فلسطين محمود الشجراوي: "الاحتلال يمارس نفس الانتهاكات ضد المرابطين في المسجد الأقصى كما كان في السنوات الماضية، لكن هذا العام يضغط أكثر على أهلنا في الأقصى، حتى في شعيرة الاعتكاف التي هي جزء من هوية المسلم."
ويوضح "الشجراوي": "منذ عام 2014، كان الاحتلال يسمح بالاعتكاف في ليالي الجمعة والسبت، والآن، هذه هي المرة الأولى التي يمنع فيها الاحتلال المعتكفين في هاتين الليلتين بعد عشر سنوات من السماح."
ويضيف "ضيف سند"، "في السنوات الماضية، كنا نشهد مشهدًا مختلفًا، حيث كان الفلسطينيون من القدس والضفة الغربية يتوافدون للاعتكاف في المسجد الأقصى، رغم كل التحديات، ولكن هذا العام، يواجهون منعًا غير مسبوق"، مُشددًا أن منع الاحتلال الاعتكاف في ليالي الجمعة والسبت هو تصعيد جديد".
ويذكر "الشجراوي"، "هذا الرفض يخلق حالة من الاحتقان الكبير في القدس والضفة الغربية، لأن الفلسطينيين يعيشون طوال العام على أمل الوصول إلى الأقصى في رمضان، موضحًا أن الاحتلال يسعى بكل وضوح للتصعيد، لا يريد فقط السيطرة على المسجد الأقصى بل يريد إلغاء الوجود الفلسطيني في قلبه.
ويستطرد ضيفنا، "في هذا الشهر، سنشهد تقاطعًا فقط مع عيد البُوريم، الذي سيقع بين 13 و15 مارس، وفي اليومين الخميس والجمعة القادمين، مُضيفًا: "لا أعلم إذا كان الاحتلال سيقوم بمهاجمة المسجد الأقصى أو محاولة تفريغه في ليلة الجمعة القادمة، ولكن هذا يعني توترًا شديدًا في القدس وفي الضفة الغربية."
ويوضح: "الاحتلال يحاول دائمًا خلق واقع جديد، وبالذات في شهر رمضان هذا العام، لا يوجد تقاطع آخر غير عيد البُوريم، وبعد ذلك، يأتي عيد الفصح، ولكن ما نشهده من تقصير عربي وإسلامي في دعم قضية المسجد الأقصى أمر يقيني."
ويشرح: "الاحتلال بات في السنوات الأخيرة آمنا من أي ضغوط حقيقية، ويستطيع تنفيذ الأجندة التي وضعها لتفريغ المسجد الأقصى، وهذا يطرح سؤالًا كبيرًا: ماذا ننتظر نحن كعرب ومسلمين للقيام بتحرك حقيقي لحماية مقدساتنا؟"
ويدعو "ضيف سند"، كل من يستطيع الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك في شهر رمضان، سواء كان في داخل فلسطين أو خارجها، الرباط في المسجد وحمايته من مخططات الاحتلال".
ويضيف مخاطبًا العالم: "اذهب بأي جواز سفر تملكه، وبأي طريقة استطعت الوصول إلى المسجد، لا تخشَ أن يُنظر إليك على أنك تطبّع، لأنك ذاهب بنية حماية المسجد الأقصى والدفاع عنه، المسجد الأقصى يفرح، وحتى حجارة المسجد تفرح بقدوم المعتكفين والصلاة في ساحاته، وفي مبانيه".
"أعداد المعتكفين في زيادة"..
يؤكد مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية زياد الحموري، أن لشهر رمضان في القدس طابعًا خاصًا، حيث تشهد المدينة تدفق أعداد كبيرة من المصلين إلى المسجد الأقصى، وهو أمر يزعج الاحتلال الإسرائيلي.
ويشير "الحموري" إلى أن الاحتلال يسعى إلى تنفيذ مخططاته للسيطرة على المسجد الأقصى، من خلال زيادة أعداد المستوطنين المقتحمين للمسجد، تمهيدًا لإقامة الهيكل المزعوم وهدم الأقصى.
ويذكّر بأن الفترة التي سبقت السابع من أكتوبر شهدت استعدادات مكثفة من قبل الاحتلال والمستوطنين، حيث أعلنوا عن جلب خمس بقرات حمراء بهدف تقديمها كقرابين ونشر رمادها، في خطوة اعتبروها بداية لإقامة الهيكل.
ويضيف أن الحكومة الإسرائيلية خصصت ميزانية رسمية لهذا المشروع، مما دفع المقاومة الفلسطينية إلى اتخاذ السابع من أكتوبر كأحد الردود على هذه المخططات. ي
ووضح أن الاحتلال، بعد هذه الأحداث، يحاول مجددًا إعادة فرض مخططاته عبر التضييق على المصلين، لا سيما من القدس والداخل الفلسطيني المحتل، ومنعهم من الوصول إلى المسجد الأقصى.
ويؤكد أن الإجراءات المشددة التي فرضها الاحتلال بعد السابع من أكتوبر، بما في ذلك منع الفلسطينيين من دخول البلدة القديمة والمسجد الأقصى خلال رمضان الماضي، والاعتداء عليهم حتى في الشوارع، تسببت في اضطرار العديد منهم للصلاة في الطرقات، حيث تعرضوا للقمع والاعتداء.
ويلفت ضيفنا إلى أن الاحتلال حاول هذا العام إقرار قوانين جديدة لتحديد عدد المصلين، مع تصريحات بالسماح فقط لعشرة آلاف شخص بالصلاة أيام الجمعة.
ويُشدد "الحموري" بأن الأعداد، رغم كل هذه التضييقات، لا تزال تتوافد بعشرات الآلاف لأداء صلاة التراويح والتهجد، حيث تجاوز عدد المصلين في الجمعة الأولى 100 ألف، ومن المتوقع أن تزداد الأعداد في الجمعة الثانية.