وأنت تسير في شوارع قطاع غزة بين الخيام وبجانب الركام، يزيد بؤسك المشهد الثالث المُلازم للقصف والدمار، "تِلال النفايات" وروائحها الكريهة، والدخان المنبعث منها بفعل الحرق الذاتي أو الحرق المفتعل للتخلص منها، تلك الحرب الصحية والبيئية والتب تُعدُّ جزءاً من الحرب الكبرى التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ عام ونصف.
وتبلغ كمية النفايات الصلبة في قطاع غزة كاملاً أكثر من نصف مليون طن، بينما مدينة غزة وحدها يتراكم فيها أكثر من 175 ألف طن من النفايات، في حين تُقدَّر كمية نفايات الردم والهدم جراء القصف الإسرائيلي بـ 50 مليون في القطاع، وفقاً للبروفيسور والمختص البيئي عبد الفتاح عبد ربه، ما ألجأ عشرات المواطنين إلى محاولة التخلص منها بالحرق.
مكبات مُستحدثة..
لا تزال سلطات الاحتلال الإسرائيلي تمنع الطواقم البلدية العاملة من الوصول إلى المكبات الرئيسية والبالغ عددها ثلاث مكبات تتواجد في منطقة جحر الديك شرق مدينة غزة، ودير البلح وسط القطاع، وقي منطقة الفخاري جنوباً.
ويقول مسؤول العلاقات العامة في بلدية غزة عاصم النبيه لـ "وكالة سند للأنباء"، إن مدينة غزة تشهدُ تراكماً هائلاً للنفايات يزيد عن 175 ألف طن، مع تراكم يومي لـ 600 طن دون إمكانية ترحيله بشكل منتظم.
ويردف أن بلدية غزة غير قادرة على جمع كل هذه الكميات من النفايات؛ مرجعاً ذلك لتدمير الاحتلال أكثر من 85% من إجمالي المعدات الثقيلة والمتوسطة التابعة للبلدية.
ويوضح "النبيه" أن عدم تصريف هذه النفايات ونقلها إلى أماكنها المخصصة في المكبات الموجودة شرق قطاع غزة، والعجز في المعدات واستمرار القصف الإسرائيلي، خلق مكبات عشوائية، مثل سوق "فراس" ومناطق اليرموك، وغيرها(..)
ويؤكد ضيفنا أن المكبات العشوائية المًستحدثة في بعض المناطق ليست حلاً حقيقيًا، لما تسببه من تكدسٍ للتلوث في أماكن السكن، وما تحمله من مكرهة صحية وبيئية.
ولهذا السبب لجأ بعض أهالي قطاع غزة إلى حرق ما يُمكن حرقه من النفايات في المكبات المستحدثة؛ في محاولة للتخلص من رائحتها الكريهة وشكلها المُكدَّس بين المساكن ومخيمات النازحين، بينما تشتعل النفايات ذاتياً في بعض الأحيان بسبب تفاعل الغازات المنبعثة منها مع حرارة الجو، وفقاً لضيفنا.
مَكرهة بيئية وصحية..
البروفيسور والمختص البيئي عبد الفتاح عبد ربه يُحذر في حديثه لـ "وكالة سند للأنباء" من أن تكدس النفايات ساهم في انتشارٍ كبير للأوبئة والأمراض وزيادة أمراض الجهاز التنفسي، إضافة ً إلى انتشار القوارض التعايشية مثل "الفئران" والجرذان، والتي تسبب نقل الأمراض وإخافة الناس وتدمير المحاصيل والأغذية المخزنة في البيوت، إضافة إلى انتشار القطط التائهة والكلاب الضالة.
ويرى "عبد ربه" أن البيئة في قطاع غزة مُركبة ومشاكلها كذلك مُركبة، معتبراً أن لجوء المواطنين للتخلص من النفايات بالحرق "أخف الضررين"، رغم ما يحمله الحرق من مخاطر بيئية وصحبة، إلا أن تكدس النفايات يشكل مكرهةً أكبر.
وحول تبعات الحرق، يقول "عبد ربه" إن حرق النفايات يتسبب بانبعاث الدخان والغازات الملوثة للجو والبيئة المحيطة، ومن ضمنها غاز أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون والنيتروجين، وغازات التلوث الحراري والتغير المناخي، إضافة إلى غازات أخرى "مُسرطنة".
ويزيد: "إن حرق النفايات يعني دخول هذه الغازات للبيوت والخيام، ما يؤثر على صحة السكان، خاصة أن عدداً كبيراً من أهالي قطاع غزة يعاني أمراضاً قلبية ومشاكل صحية، وهم الأكثر عرضة للغازات المنبعثة، فلا يقووا على تحمل هذه الغازات".
أما عن حرق النفايات البلاستيكية، فكارثة أخرى تطرق الأبواب، لما لها من تلويث للأرض والتربة والخزان الجوفي، وعليه ينبه ضيفنا أن تلوث التربة سيؤول إلى تدمير الإنتاج الزراعي وتصحر وتملُّح التربة.
ومع اقتراب فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، يلفت "عبد ربه" النظر إلى ارتباط النفايات الوثيق بدرجات الحرارة، فكلما ارتفعت الأخير، زاد تحلل النفايات العضوية، ما يعني زيادة الروائح الكريهة، وانتشار الحشرات الضارة وعلى رأسها البعوض الذي سينتشر بكميات مهولة.
السيِّد أبو عبد الله عماد، أحد النازحين المتواجدين في منطقة الساحة وسط مدينة غزة، يصف مشاهد حرق النفايات في منطقة "سوق فراس" بـ "الكارثة المركبة".
ويقول المُسن "عماد" لـ "وكالة سند للأنباء"، إنه وعائلته المستأجرة في إحدى البنايات في المنطقة يعانون بشكل دوري من رائحة الحرق المنبعثة من النفايات، خاصةً أنه وزوجته مصابون بأمراض الجهاز التنفسي.
ويتابع في حديثه لمراسلتنا: "الرائحة الكريهة تلازم البيت أيام، غير أزمة اتساخ الملابس النظيفة من الدخان".
ويضيف: "في أول أيام شرع بها المواطنون بالحرق، ظننا أنه استهداف جديد في المنطقة لكن لم نسمع له صوت، ودب الرعب للحظات، حتى شممنا الرائحة، وتيقنا أنها أزمة جديدة من أزمات الحرب".