قبل أن تحل الحرب بكل بشاعتها، كانت الأماكن في قطاع غزة بسابق عهدها تزخر بالضحك والحركة، قاعة المؤتمرات الكبرى في الجامعة الإسلامية كانت دائمًا مليئة بالأصوات المليئة بالحماس، مع طلاب يتراصون على كراسيهم الخشبية التي تحمل عبق الذكريات، كان كل شيء يعكس الفخر والفرح، طابور الخريجين كان يمتد كخيوط من الأمل، كل خطوة فيها كانت تحمل بين طياتها حلمًا تحقق، وتطلعات نحو المستقبل، المكتبة، كانت المكان الذي تنسج فيه الأفكار، حيث تجتمع الكتب لتروي لنا قصصًا لا تنتهي، وحيث السكون لا يعني الفراغ بل يعني اكتمالًا في الفكر والروح.
لكن اليوم، لا شيء مما كان، ساحة الجامعة، التي كانت تعج بالحياة والحديث، أصبحت الآن مرتعًا لخيام النازحين، تتشابك أسلاكها مع ذكريات الأمس، بينما تئن الجدران من تحت وطأة ما أصابها، والكراسي الخشبية التي كانت تشهد على تلك اللحظات الجميلة تحولت إلى قطع ممزقة، وحطب بدلًا من الوقود.
"وكالة سند للأنباء" في هذا التقرير سلطت الضوء على الأماكن المبهجة في غزة، التي كانت تعج بالحياة والنشاط قبل الحرب، وكيف تحولت الآن إلى مأوى لآلاف النازحين. تلك الأماكن، التي كانت تشهد احتفالات، لقاءات عائلية، وأوقات فرح بين السكان، أصبح اليوم يُرافقها مشهد الدمار والخراب.
"رئة غزة المتعبة"..
تقول الشابة أمل الفراني خريجة الجامعة الإسلامية بغزة، "كانت تجربتي في الجامعة الإسلامية رحلة عز وفخار، كنت أتزين بانتمائي لهذا الصرح العريق وأتباهى بكوني جزءًا من تاريخه العميق، حملت في قلبي طموحات جمّة وأحلامًا شاسعة، تحقق بعضها، وما زال الكثير منها معلقًا على أبواب الأمل، لم تكن الطريق معبدة بالورود؛ بل كانت مليئة بشقاء أربعة أعوام من الجهد والكلل، انتهت بلحظة مفصلية هي حلم التخرج".
وتضيف "الفراني" بكلماتٍ من الألم، "لكن غزة، التي كانت روزنامتها مسكونة بالحروب، لم تمنحني احتفالًا خالصًا، في عام 2014، حين أمطر الاحتلال سماءنا بالقذائف، طال القصف مبنى الإدارة وقسم الإعلام، ذاك الذي كنت أنتمي إليه، أُجّل حفل التخرج، وعلّقت أحلامنا في انتظار أن تهدأ طبول الحرب".
وتسرد: "لن أنسى أبدًا قاعات الجامعة، ولا أصوات أساتذتنا وهم يزرعون فينا بذور الطموح، ولا ذلك اليوم الأول الذي وطئت فيه قدماي القاعة الكبيرة التي احتضنت خطواتنا الأولى والأخيرة، كانت القاعة تضج بالضحكات يومًا، ثم تحولت جدرانها إلى شهود على دموع وحسرة، حين غزتها خيام النازحين، واحترقت مكتبتها العريقة لتتحول كتبها إلى وقود يطهو عليه الجائعون، أما عن حبال الغسيل الممتدة على جدران الجامعة، علقت أرواحنا المكسورة عليها، وتركنا هناك جزءًا من ذاكرتنا".
أما ساحة الجندي المجهول التي تحولت إلى خيام النازحين، تُعبر "الفراني"، " كم كانت ساحة الحياة، رئة غزة المتعبة التي تتنفس منها.، لم أكن أتربط بالمكان ارتباطًا عميقًا، لكنها كانت مكانًا نمرّ به في أيام الأعياد كمن يلمس النبض الأخير في جسد مدينة متعبة، كانت الساحة تضحك حين نضحك، تكتظ حين تبتسم المدينة، واليوم... اليوم تراها صامتة، ميتة، تعج بخيام النازحين وأصوات البكاء والضياع، تحولت من فسحة فرح، إلى نصب حي للفقدان".
وتُكمل "ضيفة سند"، "أما شارع الشرطة، أو "شارع الجوازات" كما اعتدنا أن نسميه، فكان ذاكرتنا اليومية، هناك، كنا نهرب من زحمة الشوارع، أنا وصديقاتي، نتبادل الحكايات والضحكات على الأرصفة المزدحمة بالخطى، كان الشارع يجمع بين الهدوء ونبض الحياة في آنٍ معًا، اليوم، غابت ملامحه، لم يبقَ سوى ركام يتناثر على الطرقات، وأطفال يبحثون عن لعب ضائعة بين الأنقاض، وشوارع صارت تروي حكايات ألم وصمود بدلًا من ضجيج الحياة".
وتزيد "الفراني"، "أذكر جيدًا حين انسحبت قوات الاحتلال من منطقتنا، خرجت في جولة قصيرة، وقد شدني الفضول، وكم كنت أتمنى ألا أرى ما رأيت، رأيت مدينتي تأن تحت وطأة الدمار، شوارع فقدت أسماءها، مبانٍ أصبحت أطلالًا، وحياة انمحت ملامحها، لم يعد عقلي قادرًا على استيعاب حجم الخراب، ولا قلبي قادرًا على تحمّل وجع المشهد".
وتصف ما في ذاكرتها، "أصبحت بالكاد أغادر منزلي، لا لأني أخاف الشوارع، بل لأني أخاف على ذاكرتي من أن تخونني، أخاف أن تتآكل صورة غزة الجميلة التي اختزنتها في قلبي، أريد أن أحتفظ بكل تفصيل جميل، بكل زاوية ضاحكة، بكل رائحة قهوة تسللت من نوافذ البيوت القديمة.. أنتظر يومًا يعود فيه ضجيج الأطفال إلى الشوارع، وتعود الأرصفة لتحتضن خطوات العابرين؛ لأن غزة ليست مدينة فحسب، غزة هي الحلم الذي يرفض أن يموت".
"ذكريات الأماكن"..
تبدأ الصحفية منى الأميطل حديثها عن تجربتها في الجامعة الإسلامية، فتقول: "بدأت دراستي في الجامعة الإسلامية عام 2011، وكان التخصص الصحافة، كنت أفتخر بحصولي على فرصة الانضمام إلى هذا الصرح العريق، كل زاوية وكل ركن في الجامعة يحمل لي ذكرى، رغم أنني شخص كثير النسيان".
وتسرد "الأميطل" عن ذكرياتها: "لا يمكنني نسيان قاعة المؤتمرات الكبرى، كانت القاعة تلك تحتضن مؤتمرات الجامعة واحتفالاتها، وكنت أرى صورها اليوم وقد أحرقت، لكن ما علق في ذاكرتي هو شكلها الأصلي، وهي مليئة بالطلبة وأصوات الأناشيد التي كانت تعم المكان، أتذكر يوم تخرجي هناك، حيث غنينا وضحكنا، والتقطنا صورنا، ولا أستطيع تذكر غير تلك اللحظات الجميلة، وكلما تذكرتها، لا أريد أن أذكر إلا تلك الذكريات، أما مشهد حرق القاعة، فقد مرّ أمامي مرورًا عابرًا، ولم أتمعن فيه حتى رسخ في ذهني."
ثم تُنتقل إلى حديث آخر عن مكان آخر يحمل لها ذكريات مختلفة، فتضيف: "وعلى مقربة من تلك القاعة، هناك ساحة الجندي المجهول، التي كانت بالنسبة لي بمثابة الملاذ عند الشعور بالملل أو الحاجة للراحة، كانت الساحة مكانًا مليئًا بالحياة، حيث يمكننا الاسترخاء في الرمال، مراقبة الناس وهم يتجمعون، يتبادلون الأحاديث، ويشربون الشاي، كان المشهد هناك يعكس روح غزة وحيويتها، لكن بعد الحرب، أصبح هذا المكان مليئًا بالنازحين، وكانت الصورة مختلفة تمامًا، شعرت بشعور مرير، كيف أصبح هذا المكان الذي لطالما كان ينبض بالفرح والحياة، مكانًا للوجع والمأساة؟ مع ذلك، لا أستطيع أن أزيل من ذهني تلك الصورة الجميلة التي كانت فيها الساحة، وأرفض أن أتقبل تلك الصورة الجديدة التي لم تعد هي ذاتها."
"حلم الجامعة الذي لا ينتهي"..
أنغام ماجد عودة، خريجة الصحافة والإعلام من الجامعة الإسلامية تقول: "عشت تجربة رائدة ومميزة خلال سنوات دراستي الجامعية، الجامعة كانت بالنسبة لي حلمًا، بمبانيها وساحاتها الخضراء وتعليمها الراقي وأساتذتها الذين نفتخر بهم على المستويين المحلي والعالمي، درست وتعلمت وتدربت على يد قامات علمية مميزة، مما أهلني لأن أعمل وأتطوع خلال سنوات دراستي".
وتضيف "عودة"، "كنت أنتظر لحظة تخرجي بفارغ الصبر، وكنت أحلم بالوقوف على منصة قاعة المؤتمرات الكبرى، أتخيل نفسي كعروس تزفها الأحلام، وأردد بيني وبين نفسي كل الحروف التي تعبّر عن الفرح والسعادة بعد تعب سنوات طويلة، أجمل لحظة عشتها كانت عندما رأيت الفرح على وجه والدتي، وهي ترفع رأسها بي كأول خريجة في العائلة، وسط دعم عائلتي ومحبتهم".
وتُتابع بكلماتٍ من الأسى: "عندما رأيت قاعة المؤتمرات الكبرى وقد تحولت إلى مكان للنازحين، لم أستطع أن أنظر إلى الصور، امتلأت عيوني بالدموع وأنا أرى الحبال والخيام تملأ القاعة بدلًا من الخريجين، شعرت أن أجمل ذكرياتي قد انطفأت، تمامًا كما انطفأت أحلام كثير من الطلبة الذين كانوا ينتظرون التخرج فيها".
وتزيد "عودة"، "كنت أنوي استكمال دراساتي العليا، كنت أحلم أن أواصل دراستي للماجستير داخل جامعتي التي أحببتها، ولكن الخراب الذي طالها دمّر كل شيء، حتى الآن لم أستطع أن أتصالح مع هذا الواقع المؤلم، كل يوم أتمنى أن تعود الجامعة كما كانت، أن يعود نبض الحياة إلى ساحاتها ومدرجاتها وصفوفها.
وتذكر ضيفتنا: "أنا اليوم أعمل موظفة في مركز المؤتمرات، في الطابق الأول من قاعة المؤتمرات الكبرى، المكان الذي عشت فيه أجمل لحظات دراستي أصبح اليوم مأوى للنازحين، أمشي بين الغرف وأتذكر ضحكاتنا، تعبنا، أحلامنا الصغيرة والكبيرة، حتى الجدران التي كانت شاهدة على أحلامنا، صارت اليوم تئن من ألم النزوح والمعاناة".
ماذا عن الأماكن الأخرى التي أصبحت أماكن نزوح، تُجيبنا: "ساحة الجندي المجهول، كلما مررت بجانبها تختنق كلماتي، كانت الساحة قلب غزة النابض بالحياة، ملتقى الأطفال والعائلات والشباب الباحثين عن لحظة فرح في وسط كل الصعوبات، اليوم لم تعد الساحة كما كانت؛ امتلأت بالخيام والحزن، وغاب عنها الضحك والبسمة، صار الجندي رمزًا للألم بدلًا من رمز للحياة،
ساحة الجندي، التي كانت تجمعنا من كل أرجاء غزة، تحولت إلى لوحة حزينة، الناس صاروا يمشون على أطراف قلوبهم، يحاولون النجاة لا الفرح".
وتقول: "أما شارع الشرطة، فهو شارع ذكرياتي، كان ممرنا اليومي إلى الجامعة، طريق أحلامنا وأحاديثنا وضحكاتنا، كتبنا على أرصفته قصصنا الصغيرة، وزرعنا فوقه أملنا بالغد اليوم، حتى هذا الشارع تغير، لكنه سيظل محفورًا في ذاكرتي، أحكيه لأطفالي، وأروي لهم عن غزة الجميلة التي كنا نعيش فيها".