تصاعدت موجات الهيمنة الاستيطانية وعلى رأسها مجلس المستوطنات ورواد الاستيطان الرعوي، في منطقة الأغوار الشمالية في الضفة الغربية، ما يُنذر بتآكلٍ للوجود الفلسطيني وتخوفات من السيطرة الإسرائيلية لأرض الفلسطينيين وممتلكاتهم.
وتضم الأغوار الشمالية 100 تجمعاً وقرية، هُجِّر منها حوالي 13 تجمعاً عمرانياً عام 1967، ما يزال أهلها يعيشون في الخيام والبركسات، يُضاف إليها تدمير 60 تجمعاً وقرية.
ويُسيطر الاحتلال الإسرائيلي على ما نسبته 84% من مساحة الأغوار الشمالية، منها 2% عقب حرب الإبادة على قطاع غزة، وفق ما أورده الباحث في الأغوار عارف الدراغمة.
ويطلق فلسطينيو الأغوار صيحات استغاثة ممزوجة بالخشية على مستقبلهم، وحضورهم الثابت فوق أرضهم وممتلكاتهم ومزارعهم، في ظل الهجمات الاستيطانية المتتالية.
ثمن فاتورة الصمود..
ياسر أبو عرام (56 عاماً) واحدٌ من سلسلة المتمسكين بحقهم في الأغوار الشمالية، والذي طالت أملاكه مؤخرًا عسف المصادرة بقيمة مالية باهظة.
يتنقل "أبو عرام" من موقع لآخر في أرض عرف دروبها وتفاصيلها ووديانها ومراعيها دون أن تثنيه الاستهدافات الإسرائيلية اليومية عن البقاء والثبات، رافضاً الرحيل وسياسات التهجير.
واستقر "أبو عرام" في منطقة البقيعة الغربية عقب هجوم قوات الاحتلال على مساكنه وممتلكاته وأغنامه في تل الرأس الأحمر بمنطقة عاطوف شرقي طمون، ومصادرة ممتلكاته الكثيرة والتي تعتبر من أعمدة صموده فوق الأرض وحفاظاً على رقبتها ووجود الفلسطيني فوق أرضه المهددة في كل لحظة.
ويؤكد "أبو عرام" لـ"وكالة سند للأنباء"، بلكنته البدوية الغليظة وبنبرة غضب في صوته، أن يوم الثالث من شهر مايو/ أيار الجاري كان الأشد قسوة عليه وعلى أبنائه الذين يبلغ تعدادهم زهاء 35 نفراً.
ويقول إنه وعائلته باتوا في العراء بين عشية وضحاها، حيث كان ثمن فاتورة الصمود أكثر من نصف مليون شيقل مثلت قيمة ممتلكاتهم التي صادرتها قوات الاحتلال.
وتشمل ممتلكات "أبو عرام" خياماً للسكن، تراكتور، تنكات مياه، قواطع معدنية، 20 وحدة كبيرة لإيواء الأغنام، بالإضافة إلى مولدات كهربائية وأنظمتها.
ويشير ضيفنا إلى أنه لا يمكن تعويض ممتلكاته وتهجيره من وادي الفاو قبل الانتقال للرأس الأحمر مؤخراً.
أسباب تآكل الوجود الفلسطيني..
بدوره، يؤكد رئيس مجلس خربة يرزة شرق طوباس -وهي التجمع الفلسطيني الوحيد على شفا الأغوار-، مخلص سمارة، أن أكبر نسبة تهجير لفلسطينيي الأغوار كانت في العام الحالي، إثر انفلات عقال الوضع الأمني في ظل حرب الإبادة على قطاع غزة.
ويوضح "سمارة" أن سلوك الاحتلال ومستوطنيه انقلب 90 درجةً، لافتاً إلى أن التجمعات الفلسطينية كافةً، أصبحت تتساوى في التهجير والاستهداف.
ويُبيِّن "سمار" لـ"وكالة سند للأنباء" أن 5 عائلات نزحت مؤخراً إلى خربة يرزة البالغ عددها 120 فلسطينياً، بفعل الاستهدافات وسياسات التهجير الإسرائيلية، يُضاف إليها 15 عائلة نزحت لبلدتي تياسير والعقبة.
ويعزو "سمارة" أسباب تآكل الوجود الفلسطيني في الأغوار للاستيطان الرعوي، وضعف إمكانيات الصمود، بينما ما يقدم رسميًا من مشاريع "خجولة" لم يعد كافياً في الحد الأدنى، مقابل سيول الدعم الإسرائيلي الرسمي وغير الرسمي للاستيطان ومجلس المستوطنات، وكافة الوسائل الداعمة للهيمنة على الأغوار التي تعد الكنز الفلسطيني مترامي الأطراف.
ويؤكد "سمارة" على ضرورة توفير الحماية والدعم القانوني أكثر من الدعم المادي، مستدركاً أن "اتفاقيات أوسلو وتصنيف الأغوار ضمن المنطقة ج وخضوعها للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية زاد تعقيد الأوضاع.
وعلى إثر ذلك، يتابع ضيفنا حديثه أن "السلطة الفلسطينية والمواطن والجهات الدولية لا تقوى على مواجهة سلطات الاحتلال".
ويُضيف "سمارة" سبباً آخر للتآكل الفلسطيني، وهو ارتفاع الكلفة الإنتاجية للزراعة حيث تعتبر الأغلى في العالم، خاصة مناطق كردلة وبردلة والعين البيضاء والزبيدات.
ويُقابل ذلك تسارع النمو في الاستيطان الرعوي كسرطان مستشري، والطريق الوحيدة الناجحة في السيطرة على الأرض وتنفيذ التهجير.
ويصف "سمارة" من يُسمون برواد الاستيطان والاستيطان الرعوي بـ"الكلاب المسعورة"، في ظل ما يرتكبوه من ممارسات عنيفة دون قانون رادع، بينما "يعجز اللسان عن وصف طرق تعاملهم وسلوكهم اليومي باستخدام السلاح وحماية الجيش والشرطة".
ويحذر "سمارة" من أن بقاء الواقع والإقليم على هذا الحال دون إحداث تغيير سياسي سريع، لن يُبقي التجمعات الفلسطينية الغورية، بينما لن يبقى فيها سوى القرى المشيدة على وقع الابتلاع.
ويكشف كذلك عن مشاريع إسرائيلية ضخمة لتحويل الأغوار لأكبر مركز للطاقة الشمسية في الشرق الأوسط، كتجارة رائجة واقتصاد خارجي موجه لدول الإقليم، في حين بقي حال الأغوار وتهجيرها على حاله.
رحيل من نوع آخر..
ويستكمل الحديث لـ"وكالة سند للأنباء" الباحث والناشط الحقوقي في الأغوار عارف الدراغمة، حيث يرى أن هناك رحيل من نوع آخر لا يقتصر على المزارعين، بل تعداه لرحيل أصحاب المشاريع وانتقالها لمواقع أخرى، مشدداً أن هنا يكمن الخطر والتهديد الحقيقي كواحد من أسباب تآكل الوجود الفلسطيني.
ويتساءل "الدراغمة" في حديثه عن إمكانات الدعم الرسمي الفلسطيني والشعبي لفلسطينيي الأغوار في مواجهة تهجيرهم ومصادرة أملاكهم وسرقة مواشيهم وأغنامهم، وتدمير مزارعهم، وسياسات فرض الغرامات الباهظة وتوفير بنى تحتية متواضعة لتثبيتهم.
ويشير "الدراغمة" إلى أنه في حال غياب الخطة الوطنية الفلسطينية ستذهب الأغوار للأسوأ، وتكون الفرصة مهيأة لبسط مجلس مستوطنات الأغوار على ما تبقى من الأرض والثروات المائية، ما يعني الشروع في تدارك المنطقة وحمايتها، ووقف تآكل الوجود الفلسطيني ومنع الوصول للانهيار والرحيل.
ووفق إحصائيات الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، يبلغ عدد سكان التجمعات الفلسطينية في الأغوار كافة حتى العام الحالي ما مجموعه 135 ألفاً و238 فلسطيني من ضمنها مدن أريحا وطوباس.
وأظهرت نفس الإحصائيات والتي اطلعت عليها "وكالة سند للأنباء"، أن عدد سكان التجمعات الفلسطينية في أريحا والأغوار بلغ 57 ألفاً و248، وطوباس والأغوار الشمالية 71 ألفاً و628، وتجمعات الأغوار الوسطى الخمسة 6308 نسمة، وأقلها سكانا هو تجمع عين شبلي البالغ 361 فلسطيني.
ووفق مركز المعلومات الوطني الفلسطيني التابع لوكالة وفا الرسمية، تبلغ المساحة الإجمالية للأغوار 720 ألف دونم، وتشكل حوالي 30% من مساحة الضفة الغربية.
واحتلت "إسرائيل" منطقة الأغوار عام 1967، وتم إفراغ العديد من المناطق من ساكنيها بشكل كامل، فقد أجلت منها نحو خمسين ألف فلسطيني، وتسيطر إسرائيل على ما نسبته حوالي 90% من جميع مناطق الأغوار بشكل مطلق حسب المركز.
وحسب مؤشرات التعداد الزراعي الفلسطيني لعام 2021 فإن مناطق الأغوار تُشكل ما نسبته 50% من الأراضي الزراعية في الضفة الغربية تقريبًا.
وتعتبر الأغوار سلة غذاء فلسطين وتزود السوق الفلسطيني بحوالي 60% من الخضار والفواكه، كما تحتوي على ما نسبته 50% من مصادر المياه الفلسطينية الجوفية، وتُعد ثاني أكبر خزان للمياه الجوفية في الضفة الغربية.