الساعة 00:00 م
الخميس 15 مايو 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.71 جنيه إسترليني
5 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
3.97 يورو
3.55 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

حين تصبح التكايا هدفًا للصواريخ.. تُقصف اللقمة قبل أن تصل إلى فم الجائع

"بدي أرجع أشوف".. حلم طفل غزي سرقت منه الحرب عينيه وحركته

حين تصبح التكايا هدفًا للصواريخ.. تُقصف اللقمة قبل أن تصل إلى فم الجائع

حجم الخط
قصف التكية
غزة – إيمان شبير – وكالة سند للأنباء

في غزة، لا تُستهدف البيوت فقط، بل تُستهدف اللقمة قبل أن تصل إلى فم الجائع، حين تقصف تكية تطبخ العدس، لا يعود الأمر حربًا عسكرية، بل تجريدًا مقصودًا من أبسط مقومات الحياة.

في كل زاوية من المخيمات، نساء يَسِرن بخطى ثقيلة، يحملن أوانيهن الفارغة، لا طلبًا لصدقة، بل لحماية أطفالهن من الجوع، هنا، الأمهات لا يبكين، فقط يُطعمن بصمت، ويمضين في يومٍ يشبه البارحة، وأصعب من الغد.

ورغم الاستهداف، والخوف، والطوابير الطويلة والموارد الشحيحة، لا تتوقف التكايا، يُعاد إشعال النار، وتُغسل القدور، وتُقسم الوجبة على مئة يد، لأن لا خيار سوى الاستمرار، في مكان تُحارب فيه الحياة، يصبح الطبخ مقاومة، وتصبح وجبة ساخنة فعلًا من أفعال الكرامة.

ووفق آخر المعطيات الصادرة عن الإعلام الحكومي في قطاع غزة، استهدف الاحتلال 29 تكية و37 مركزًا لتوزيع المساعدات منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في محاولات متعمدة لتجويع السكان والنيل من عزيمتهم.

"أصحاب التكيات"..

تقول مسؤولة حملة "أغيثوا غزة"، آلاء أبو عودة، إن الواقع الإنساني في قطاع غزة بلغ مرحلة لا يمكن فيها للضمير الحي أن يلتزم الصمت، مؤكدة أن ما يحدث هناك ليس مجرد أزمة عابرة، بل مأساة إنسانية متواصلة تستهدف الإنسان في أبسط حقوقه؛ الغذاء والماء والأمان.

وتعبر "أبو عودة" لـ "وكالة سند للأنباء"، عن شعورها بالمسؤولية الأخلاقية التي دفعتها إلى التحرك، موضحة أن ذلك الواجب سبق اعتبارات الدين والإنسانية، انطلاقًا من قناعة بأن كرامة الناس وعزتهم أولى بالوقوف إلى جانبهم.

وتبين أنها بادرت إلى تأسيس مشاريع إغاثية متنوعة، كحملات التبرع، وتأسيس التكية، ومبادرات سقيا الماء، وكفالة الأيتام، وبناء المخيمات، وتوزيع الطرود الغذائية؛ بهدف أن تكون جسرًا يصل بين قلوب المتبرعين في الخارج واحتياجات العائلات المنكوبة في الداخل.

وتؤكد أن استهداف قوات الاحتلال للتكية شكّل ضربة مؤلمة على جميع المستويات، مشيرة إلى تضرر البنية اللوجستية وتأثر سير العمل اليومي، إلا أنها تؤمن بأن الأثر النفسي كان الأعمق، حيث شعر الفريق والمتطوعون للحظة بأنهم وحدهم، لكن سرعان ما تحولت هذه الصدمة إلى دافع جديد للاستمرار.

وتشدد "أبو عودة" أن الاستهداف الإسرائيلي زادهم إيمانًا بأنهم يسيرون في الطريق الصحيح، مؤكدة أن المتطوعين ازدادوا صلابة، وأن ثقة الناس لم تتزعزع، بل تعززت، لأنهم رأوا بأن من يحمل الخبز والماء، لا السلاح، هو من يُستهدف.

وتوضح "ضيفة سند" أن أحد أعقد التحديات التي تواجه العمل الإغاثي حاليًا هو صعوبة إدخال الأموال إلى قطاع غزة، خاصة بعد استهداف البنوك وتعطيل البنية المالية، مما دفعهم إلى البحث عن وسائل بديلة وآمنة لضمان وصول الدعم إلى مستحقيه.

وتشير إلى وجود تحدٍ كبير يتمثل في إقناع المتبرعين حول العالم بأن دعمهم يصل بالفعل إلى داخل غزة، في ظل حملات التضليل والتشكيك التي تحاول زعزعة الثقة بالجهود الإغاثية.

وتضيف "أبو عودة"، أن كل تحرك على الأرض بات يحمل مخاطرة أمنية، سواء في نقل المساعدات أو التنسيق بين الفرق العاملة، في حين يثقل العبء النفسي كاهل العاملين، وهم يشاهدون المأساة في عيون الأطفال، ويسمعونها في صمت الأمهات.

"أكل التكية أرحم من الجوع"..

تبدأ "أ.ع" بالحديث عن اللحظة التي دفعتها للذهاب إلى التكية، فتقول إنها بدأت تقصدها منذ ديسمبر 2023، بعد أن قُصف منزلها واضطرت للنزوح إلى مركز الإيواء، لم يتبقَ لها ولعائلتها شيء؛ لا مأوى ولا طعام ولا أدوات للطبخ، وجدت نفسها مضطرة للبحث عن وسيلة لإطعام أولادها، بعدما انقطعت بها السبل تمامًا.

وتعرفَت على التكية من بعض النازحين الذين سبقوها إلى المدرسة التي لجأت إليها، كانوا يتحدثون عنها بينهم، وفي أول مرة ذهبت فيها، لم تكن تعرف الطريق، شعرت بالتيه والارتباك، لكن إحدى الجارات أخذتها معها وساعدتها.

لا تتمكن "أ.ع" من الاعتماد على التكية بشكل يومي، فهناك أيام لا يكون فيها توزيع، أو لا تستطيع الوصول بسبب شدة القصف، وفي مثل هذه الأيام، تضطر لتدبير لقمة تسد بها رمق أطفالها، حتى لو كانت مجرد خبز يابس أو قليل من الأرز المسلوق بالماء.

وتصف الوجبات التي تحصل عليها من التكية بأنها تختلف حسب الإمكانيات المتوفرة: عدس أحيانًا، أو أرز مع خضار، أو شوربة، وأحيانًا فلافل، رغم أن الكمية قد لا تكون كافية، لكنها تخفف وطأة الجوع، وتمنح أبناءها شعورًا بالشبع، ولو كان مؤقتًا.

وتتذكر حياتها قبل الحرب بحنين وألم، كانت تطبخ بيدها رغم ضيق الحال، كان لديها مطبخ وغاز وخضار وأساسيات الحياة، أما اليوم، فحتى الماء بات صعب المنال، وكل شيء تحتاجه، لا يأتي إلا من الآخرين.

تشير إلى أن أكثر ما تغيّر في حياتها منذ بدأت تلجأ إلى التكية هو شعورها بوجود "أمان صغير"، مكان يمكن أن يؤمن لها وجبة لأطفالها، لكنها في الوقت ذاته تشعر بالانكسار، وكأنها دائمًا مضطرة لمد يدها. هذا الشعور يؤلمها كثيرًا كأم، لكنها لا تملك خيارًا، فهي تحاول فقط ألا ينام أطفالها جائعين.

وتتحدث لـ "وكالة سند للأنباء"، بمرارة عن التأثير النفسي والاجتماعي على أولادها، الذين لم يعودوا يضحكون أو يلعبون كما كانوا. تقول إنهم يسألونها كثيرًا: "متى نرجع على بيتنا؟" تحاول طمأنتهم بأن الوضع مؤقت، لكنها تعترف بأن قلبها لا يصدق ما تقول.

ورغم وجود بعض الناس الطيبين من حولها، إلا أن الجميع منهك ومكسور، تصف اللحظات التي تشعر فيها بالوحدة، خاصة ليلًا، حين ينام أولادها، وتبقى وحدها غارقة في التفكير بما ستفعله في اليوم التالي.

وحين تُسأل عن أكثر ما تتمناه، لا تتردد. تتمنى فقط أن تعود إلى بيتها، أن تشعر بالأمان، أن تطبخ بيديها مجددًا، وأن ترى أطفالها يضحكون ويلعبون، مُعبرةً "أتمنى فقط أمانًا وكرامة وسقفًا يضمّنا من جديد".

"طابور طويل لأجل لقمة"..

تقول "م.م"، وهي أم لأربعة أطفال، إنها لم تكن تتخيّل يومًا أن يقف أولادها في طابور انتظار من أجل وجبة طعام، فقد أجبرهم القصف العنيف على ترك منزلهم في الشيخ رضوان، لتجد نفسها مع أسرتها في إحدى المدارس الإيوائية في مدينة دير البلح، بلا مأوى ولا مورد رزق.

وتؤك لـ "وكالة سند للأنباء"، "أول مرة رحت على التكية، كنت حاملة طفلي عإيدي وبنتي ماسكة طرف ثوبي، حسيت إني تايهة، وجاي أدور على لقمة، مش إلي، إلهم، التكية وقتها كانت أمل وسط كل هالجوع".

وتبين "م.م" أنها في الأيام الأولى من النزوح كانت تحاول الطبخ بما توفر من المعلبات أو ما يُوزع من مساعدات، لكن الوضع سرعان ما أصبح غير محتمل".

وتوضح أن التكية لم تكن فقط مكانًا للطعام، بل ملاذًا اجتماعيًا ونفسيًا، "كنا نلتقي فيها مع ناس مثلنا، نضحك رغم الوجع، نحكي ونفضفض، وكأنها صارت بيت مصغر لكل اللي فقدنا بيوتهم."

لكنها لا تخفي شعور المرارة: "في وجع خاص لما تحسي إنك مش قادرة تطعمي ولادك إلا إذا حدا عطاك، بتحسي إنك فقدت جزء من كرامتك، بس بنفس الوقت بتحكي: بدي أعيشهم.. بدي أضل واقفة."

وتُبيّن أن أصعب الأيام هي تلك التي تُغلق فيها التكية بسبب القصف أو نقص الموارد، "أصعب شي هو اليوم اللي بتروحي فيه عالفاضي.. لما توصل وما تلاقي توزيع، ساعتها بترجعي وفي قلبك غصة، وبتفكري: شو أطعمهم؟ شو أحكيلهم؟"

وتشير إلى أن أولادها بدأوا يربطون كلمة "غدا" أو "عشا" باسم التكية، وأنهم يسألونها متى تفتح، صاروا يسألوني: ماما، اليوم في تكية؟'، كأنها صارت مرجع يومهم".