قضى توماس فريدمان، الصحفي المخضرم في صحيفة نيويورك تايمز، أسبوعًا في دولة الاحتلال الإسرائيلي عاد منه بانطباع حاسم: "البلاد تعيش لحظة يقظة مرعبة".
وقال فريدمان في مقال له إن حرب الإبادة المستمرة على غزة والتي بدأت في 7 أكتوبر 2023 لم تعد مجرد أزمة عسكرية، بل أصبحت عبئًا وجوديًا يهدد أخلاق الدولة الإسرائيلية وموقعها في العالم ووحدة مجتمعها.
وذكر فريدمان أن ما رآه من مشاهد وتحولات سياسية واجتماعية لا يوحي بأي انتصار وشيك، بل يؤكد أن استمرار الحرب يُعد كارثة حقيقية على دولة الاحتلال.
لا أحد يتحدث عن النصر
بحسب فريدمان لم يعد النقاش الدائر في دولة الاحتلال منصبًا على تدمير "العدو" أو تحقيق الحسم. فالأحاديث التي سمعها فريدمان، سواء من اليمين أو الوسط أو اليسار، لم تتحدث عن تحقيق أهداف أو الانتصار، بل عن كلفة حرب لا تنتهي.
رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت وصف الحرب بأنها "بلا هدف، بلا تخطيط، وبلا فرصة للنجاح"، مؤكداً أن ما تقوم به إسرائيل في غزة هو "حرب إبادة" ترتكب فيها جرائم ضد المدنيين.
في المقابل، صوّت النائب اليميني عميت هليفي ضد تمديد صلاحيات التعبئة الاحتياطية، واعتبر أن الحرب الحالية "خدعة" يُمارس فيها الكذب باسم الأمن القومي.
هذه المواقف ليست فقط شجاعة بل تُظهر أن الإجماع حول ضرورة استمرار الحرب قد تآكل. لم تعد المعارضة محصورة في الهامش، بل باتت تأتي من رموز داخل الائتلاف الحاكم، ومن قلب المؤسسة العسكرية، ومن شخصيات كانت حتى وقت قريب تدافع عن الحرب باعتبارها ضرورة وجودية.
المجتمع ينهار بصمت
من أخطر ما ينقله فريدمان ليس موقف النخب السياسية فقط، بل التحولات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي.
الكاتب العسكري في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، يشير إلى مؤشرات مقلقة: زيادة في حالات الانتحار، تفكك العائلات، وانهيار في قطاعات اقتصادية واسعة. هذه مظاهر لانهيار داخلي يجري التعتيم عليه رسميًا.
وبحسب هرئيل، فإن القصف الإسرائيلي لا يحقق أهدافًا استراتيجية، بل يستهدف شخصيات من حماس داخل مخيمات اللاجئين المكتظة، ما يؤدي إلى مجازر واسعة ضد المدنيين دون أن يحقق نتيجة عسكرية تُذكر.
حتى الأطفال، كما ينقل فريدمان عن المذيعة الإسرائيلية لوسي أهريش، باتوا يعيشون في بيئة نفسية ملوثة بالخوف، حيث يُطلب من طفل عمره أربع سنوات أن يميّز بين صفارات الإنذار "الحربية" وتلك "التذكارية". إنها حالة جماعية من الإنهاك النفسي والمعنوي، تضع الحرب في سياق مأساوي يتجاوز الأرقام والضحايا.
قادة بلا خيارات، وشعب بلا أمل
يرى فريدمان أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يواصل الحرب رغم إدراكه لثمنها، فقط لأنه مهدد بفقدان منصبه إن قبل وقف إطلاق النار. لهذا، يُبقي البلاد في حالة دمار مستمر لتلبية شروط اليمين القومي المتطرف في ائتلافه، غير آبه بالكلفة الباهظة داخليًا وخارجيًا.
وفي هذا السياق، ينبّه القائد السابق في الجيش الإسرائيلي، يائير غولان، من أن دولة الاحتلال في طريقها للتحول إلى "دولة منبوذة مثل جنوب أفريقيا سابقًا"، إذا لم تتوقف عن استهداف المدنيين وطرد السكان.
ويدعو غولان إلى وقف الحرب الآن، واستعادة الأسرى، وتشكيل قوة دولية لإدارة غزة. هذا الطرح الذي بدا مستفزًا قبل شهور، لم يعد خارج النقاش الآن، بل يجد له آذانًا صاغية في أوساط واسعة من المجتمع الإسرائيلي.
العزلة الدولية قادمة
يحذر فريدمان من أن اللحظة الأخطر لم تأتِ بعد. فحتى الآن، لا يُسمح للصحفيين الأجانب بدخول غزة بحرية، لكن حين تتوقف المعارك، سيبدأ العالم في رؤية حجم الدمار والمجازر، وستجد إسرائيل نفسها في مواجهة عاصفة أخلاقية وإعلامية دولية غير مسبوقة.
آنذاك، لن ينفع الإنكار ولا حملات العلاقات العامة، بل ستواجه دولة الاحتلال موجة جديدة من العزلة، تُهدد ما تبقى من علاقتها بحلفائها، وحتى بالجاليات اليهودية حول العالم.
ويختم فريدمان مقاله بتحذير مزدوج: إذا كانت دولة الاحتلال غارقة في عبادة نتنياهو، فإن أميركا غارقة في عبادة ترامب، وكلاهما يستخدمان الأساليب نفسها لتقويض الديمقراطية.
لكن دولة الاحتلال ، على وجه التحديد، تمر بلحظة اختبار وجودي: هل تبقى "ديمقراطية يهودية" أم تتحول إلى دولة يحكمها تحالف الأرثوذكس القوميين والدينيين المتطرفين؟.
ما يطرحه فريدمان ليس تحليلًا عابرًا بل تقييم داخلي من قلب دولة الاحتلال يُظهر أن الكارثة لم تعد احتمالًا، بل واقعًا يزداد سوءًا. الحرب المستمرة في غزة لم تُنهِ المقاومة، لكنها أنهكت دولة الاحتلال من الداخل، ودفعتها نحو مواجهة غير مسبوقة مع ذاتها، ومع العالم.