قال موقع The Intercept الأمريكي إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يهربان إلى الأمام للتخلص من أزماتهما الداخلية والخارجية عبر بوابة الدم بإطلاق الحرب مع إيران وإشعال منطقة الشرق الأوسط أكثر.
وأشار الموقع إلى أنه في الساعات الأولى من الثالث عشر من يونيو/حزيران، أطلقت دولة الاحتلال هجومًا شاملاً طالما تم التلويح به منذ ما يقارب عقدين: قصف منسّق ضد البنية العسكرية والنووية الإيرانية، استُهدف فيه كبار قادة الحرس الثوري ومنشآت حيوية في نطنز وفوردو، في خطوة اعتبرها مراقبون بداية تصعيد مفتوح بين قوتين إقليميتين، تحمل طابعاً وجودياً لا يمكن حصره في ضربات متبادلة.
ما تبع ذلك كان ردًا إيرانيًا غير مسبوق: إطلاق دفعات من الصواريخ الباليستية باتجاه قلب تل أبيب، مستهدفة منشآت عسكرية بينها وزارة الدفاع ومراكز قيادة.
غير أن هذا التصعيد الدموي لا يُمكن فصله عن الأزمات الداخلية العاصفة التي تحيط بكل من رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب، واللذين وجدا في الحرب طوق نجاة ومسرحًا بديلًا لإعادة ترتيب أوراقهما المهترئة.
من غزة إلى طهران: قفزة استراتيجية لحرف الأنظار
بالنسبة لنتنياهو، فإن التصعيد مع إيران يوفر له منصة مثالية للهروب من الفشل المتفاقم لحكومته، وخصوصًا في ظل الإخفاق العسكري في قطاع غزة، حيث أخفقت آلة القتل في كسر المقاومة، مقابل كلفة إنسانية وعسكرية هائلة أفقدت دولة الاحتلال تعاطف حتى أقرب حلفائها في الغرب.
الانتقال من مسرح غزة إلى الجبهة الإيرانية يتيح لنتنياهو إعادة صياغة الأولويات الدولية، وتقديم نفسه مجددًا كزعيم يقود معركة "وجودية" ضد العدو الأشرس في المخيال الغربي. لم تعد الصورة صورة دولة احتلال تذبح الأطفال في رفح، بل قوة دفاعية "تحمي" الغرب من خطر نووي وشيك.
إن إعادة تدوير أسطورة "الضربة الاستباقية"، والتي لطالما استخدمتها دولة الاحتلال لتبرير عدوانها، تعود إلى الواجهة من جديد، كما حدث في عام 1967 عندما ادّعت أنها أحبطت ضربة مصرية وشيكة، فاحتلت سيناء والضفة الغربية والجولان.
اليوم، يعاد إنتاج الرواية ذاتها ضد إيران، باستخدام ذات المفردات: تهديد وجودي، خيار لا بديل عنه، قنابل نووية على الأبواب.
دعاية الاحتلال: الحقيقة تُدفن تحت الرماد
تحركت آلة الدعاية في دولة الاحتلال بسرعة فائقة. لم تمضِ ساعات حتى امتلأت الشاشات الغربية بتقارير مفبركة عن امتلاك إيران كميات من اليورانيوم المخصب كافية لصنع رؤوس نووية، وعن ضرورة الضربة "العاجلة" قبل فوات الأوان.
وهذه الحملات لم تكن تهدف لإقناع العالم، بل لخلق ضوضاء تغطي على الأسباب الحقيقية وراء التصعيد.
في الواقع، لم يكن هدف نتنياهو العسكري أو الأمني هو الحاسم في قرار الحرب، بل سياسي بامتياز. فهو يسعى لتأجيل محاكمته بتهم فساد، وإعادة توحيد المشهد الداخلي خلف قيادته، وتمييع الانتقادات الغربية حول انتهاكات جيشه، من خلال إشعال نزاع مع "عدو خارجي" مقبول ضمنياً لدى صناع القرار في الغرب.
ترامب: حلف الحرب من دون حرب
من جهته، وجد ترامب في هذا التصعيد فرصة نادرة لتلبية رغبات شريحة من مؤيديه: أولئك الذين يكرهون الحروب لكنهم يشتهون الهيمنة الأمريكية.
فبإطلاق يد دولة الاحتلال في ضرب إيران، يستطيع ترامب الادعاء بأنه لم يزجّ بالجنود الأمريكيين في مستنقع جديد، بينما أنجز "الردع" المطلوب عبر وكلائه.
وقد بدت تصريحات المسؤولين الأمريكيين وكأنها مصممة لتغذية هذا الازدواج. فبينما زعم نتنياهو وجود تنسيق كامل مع واشنطن، خرج السيناتور ماركو روبيو ليؤكد أن العملية كانت "مبادرة إسرائيلية خالصة"، مدعومة أمريكياً لكن غير موجّهة منها. أما ترامب، فالتزم لغة الدعم الحماسي غير المحدّد، متفاديًا تحمّل المسؤولية المباشرة.
هكذا، تمكن الرئيس الأمريكي السابق من لعب دورين متناقضين: رجل السلام الذي لا يريد مغامرات خارجية، ورجل الدولة الصارم الذي سمح بتصفية قادة الحرس الثوري على يد حلفائه.
سردية مزدوجة: حرب لكل جمهور
أحد أكثر أوجه هذا التصعيد خطورة هو كيف يتم توظيفه بلغة مزدوجة: للجمهور المحلي في دولة الاحتلال، هي حرب من أجل البقاء و"آخر الفرص" لكبح المشروع النووي الإيراني؛ أما في الإعلام الغربي، فهي معركة من أجل "استقرار المنطقة" وحماية الحلفاء.
هذا التناقض يُدار ببرودة أعصاب، في ظل قناعة بأن الرأي العام الدولي فقد بوصلته في بحر من التضليل.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: إلى متى يمكن إخفاء الحقيقة؟ إلى متى يمكن ترويج فكرة أن دولة الاحتلال "ضحية" في صراع إقليمي، بينما هي من يطلق أول صاروخ، ويغتال أول قائد، ويقصف أول منشأة؟
المصير الغامض: إلى أين تمضي السفينة؟
الحرب مع إيران لم تعد احتمالاً يتم تحذير الإدارات الأمريكية منه، بل واقع دموي فجّرته الحسابات الشخصية والسياسية لكل من نتنياهو وترامب. هذا الثنائي الذي يواجه أزمة شرعية داخلية، قرر فتح جبهة كبرى لتأجيل انهيارهما. غير أن الحسابات على الورق لا تشبه ما يحدث في الميدان.
إيران ليست كياناً ضعيفاً أو معزولاً. لديها حلفاء، وإمكانات، وخبرة طويلة في امتصاص الضربات والرد المتدرّج. كما أن أي تورط أمريكي مباشر سيضع واشنطن في قلب مواجهة ستكلفها الكثير، في وقتٍ تتراجع فيه شهيتها العسكرية بعد تجربتي العراق وأفغانستان.
هكذا، يقف العالم اليوم على أعتاب حرب كبرى، فجّرها من يخشون السقوط في الداخل، ويبحثون عن خلاص خارجي عبر إشعال المنطقة. غير أن هذا النوع من الهروب لا يغيّر الحقائق.
فدولة الاحتلال ستبقى قوة احتلال توسعية، وترامب سيبقى سياسياً انتهازياً يلهث وراء السلطة. وحدها المنطقة ستدفع الثمن، كما دفعت سابقاً، بينما يمضي "أبطال الحرب" في هروبهم المستمر نحو المجهول.