لم يكن التصعيد العسكري الأخير بين "إسرائيل" وإيران مجرد تبادل للضربات، بل مثّل نقطة تحوّل مفصلية في بنية الصراع الإقليمي، حيث اختلطت الحسابات الأمنية بالرسائل السياسية، وتداخلت التكتيكات الاستخباراتية مع رهانات الردع الإستراتيجي.
ويدخل العدوان الإسرائيلي على إيران يومه الرابع على التوالي، عبر قصف واستهداف منشآت عسكرية ومدنية، واغتيال قيادات وعلماء في عدة محافظات إيرانية، في وقتٍ تواصل فيه طهران ردّها بقصف مدن إسرائيلية، ما أسفر عن قتلى وجرحى، وانهيار مبانٍ في "تل أبيب" ومدن أخرى، في مشهد يعكس تصعيدًا غير مسبوق يُنذر بانفجار مفتوح لا تُعرف حدوده.
ووسط هذا المشهد المتفجر، يُقدّم المحلل في الشأن الإسرائيلي فراس ياغي في قراءة معمّقة لطبيعة الهجوم وتوقيته، بوصفه جزءًا من خطة أمريكية–إسرائيلية متكاملة، تستهدف إحداث صدمة في الداخل الإيراني، وتعمل على زعزعة استقراره من بوابة الحرب النفسية والضربات النوعية.
وفي المقابل، تواصل إيران اللعب على وتر الصبر الإستراتيجي والرد المحسوب، مستندة إلى خبرة طويلة في إدارة الأزمات الممتدة، ومعتمدة على ترابط مؤسساتها الأمنية والعسكرية وقدرتها على امتصاص الضربات واستثمارها لصالح وحدة الجبهة الداخلية.
"توقيت الهجوم"..
قال الكاتب والمختص في الشأن الإسرائيلي فراس ياغي إن توقيت الهجوم الإسرائيلي على إيران لم يكن عشوائيًا، بل جاء مدروسًا ومتزامنًا مع نهاية المهلة التي منحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للوصول إلى اتفاق جديد مع طهران.
وبيّن "ياغي" في حديثٍ خاص بـ "وكالة سند للأنباء"، أن الإعلان عن جولة مفاوضات أمس الأحد، والذي سبق الهجوم بساعات، لم يكن سوى مناورة تضليلية تهدف إلى تهدئة الأجواء وإيصال رسالة زائفة للإيرانيين بأن لا نية للتصعيد، في حين أن قرار الضربة كان قد حُسم مسبقًا بتنسيق كامل بين تل أبيب وواشنطن.
ورأى "ياغي" أن ترامب انساق وراء رواية نتنياهو، التي زعمت أن إيران أضعف مما تظهر، وأن بالإمكان إخضاعها مجددًا لطاولة المفاوضات وفق شروط أكثر تشددًا.
وأشار إلى أن نتنياهو أقنع الإدارة الأميركية حينها بأن الاغتيالات وفرض معادلات جديدة في الداخل الإيراني قد تؤدي في نهاية المطاف إلى إسقاط النظام.
وأوضح "ياغي" أن السياسة الإسرائيلية تقوم على الاغتيالات كعقيدة ثابتة، إذ ترى فيها وسيلة لخلق "صدمة نفسية" داخل المجتمعات المستهدفة، ولتحقيق إنجازات دعائية في الداخل الإسرائيلي، تعزز صورة الدولة الأقوى أمنيًا واستخباراتيًا، غير أن قواعد الاشتباك، بحسب رأيه، قد تغيّرت بالكامل، ولم تعد كما كانت قبل اغتيالات طهران وغزة وبيروت، بل إن منطق القوة المجردة هو السائد حاليًا.
وأضاف أن "إسرائيل" لم تعد تتحرك ضمن أي قيد قانوني، بل تتبنى نهجًا يقوم على الردع بالترويع، مستشهدًا بهجوم الجمعة الماضي الذي أرادت من خلاله إحداث صدمة في الوعي الجمعي الإيراني، وتسجيل نقاط نفسية قبل أي مكاسب ميدانية.
إيران قادرة عن "امتصاص الصدمات"..
وفيما يتعلق بقدرة إيران على الصمود، شدد "ضيف سند" أن الدولة الإيرانية ليست كحركات المقاومة التي تتأثر بشدة عند فقدان قياداتها. فإيران، كما قال، تملك جيشًا منظمًا بعقيدة واضحة، وقيادات متدرجة، ولا تقوم بنيتها الأمنية والعسكرية على أفراد، بل على مؤسسة مترابطة.
ولفت إلى أن مساحة إيران الواسعة وعدد سكانها الكبير يمنحانها قدرة هائلة على امتصاص الصدمات وتجاوز الضربات.
وأكد أن "إسرائيل"، من خلال هذا التصعيد، تسعى لإحداث اختراق عميق في الثقة بين الشعب الإيراني ومؤسساته، وتصوير نفسها على أنها تملك اليد العليا داخل العمق الإيراني، لكن ما جرى، بحسب "ياغي"، جاء بنتائج عكسية؛ إذ أظهر الإيرانيون التفافًا شعبيًا حول قيادتهم، وفعّالية الردود العسكرية والأمنية، سواء في الداخل أو في مواجهة تل أبيب.
وتابع "ياغي" قائلًا إن هناك خطة تراكمية وضعتها إسرائيل وأميركا لإضعاف إيران من الداخل، تقوم على تدمير البنى الاقتصادية، واستغلال المعارضة الإيرانية التي تتعاون، وفق تعبيره، بشكل كامل مع الموساد وأجهزة غربية.
المشهد الإقليمي..
وعلى صعيد أوسع، قال "ياغي" إن المشهد الإقليمي ما بعد الهجوم الإسرائيلي على إيران مختلف جذريًا عمّا قبله، مشيرًا إلى أن نتائج هذا التصعيد ستُحدّد ملامح الجغرافيا السياسية في المنطقة.
وأوضح أن دولًا مثل روسيا، والصين، وتركيا، وباكستان، وحتى مصر، لن تقبل بأي تحوّل جيوسياسي يَصبّ في صالح إسرائيل أو الولايات المتحدة، وهو ما يجعل من الحرب الحالية معركة مصير، لا مجرد جولة عابرة.
وأضاف أن إيران، بحكم تجربتها الطويلة وحربها التي استمرت ثمانية أعوام مع العراق، لا تعتمد على ردود فعل انفعالية، بل تتبنى إستراتيجية استنزاف ذكية، بعيدة عن الانفجار الفوري الذي اعتادت عليه بعض الدول العربية.
وذكر ضيفنا، "رغم أن بعض المسؤولين الإسرائيليين يصرحون بين الحين والآخر بضرورة دخول واشنطن على خط المواجهة، إلا أن الانقسام داخل البنتاغون، والتردد الأميركي في اتخاذ خطوة مباشرة، يؤخران انزلاق المنطقة نحو مواجهة شاملة".
وختم "ياغي" تصريحه بالتشديد، أن إسرائيل قد تكون بدأت المعركة، لكنها لن تملك الكلمة الأخيرة فيها، قائلاً: "الردّ الإيراني هو من سيحسم، والحرس الثوري قالها صراحة: نحن من نقرر نهاية المعركة، وهدفنا واضح... إسقاط حكومة نتنياهو".