وسط تصاعد الكارثة الإنسانية في غزة، حيث يواجه نحو مليوني إنسان خطر المجاعة، تفشل مبادرة الإغاثة الأخيرة المدعومة من الولايات المتحدة ودولة الاحتلال في تقديم أي حل حقيقي، بحسب ما خلصت مجلة ناشونال إنترست الأمريكية.
وقالت المجلة إن الوقائع تكشف أن مؤسسة "غزة الإنسانية" تُستخدم كواجهة لسياسة متعمدة تستغل المساعدات لأغراض عسكرية وسياسية، متجاهلة الاحتياجات الإنسانية الماسة.
ولفتت إلى أنه في 26 مايو/أيار، بدأ صندوق "غزة الإنسانية" المدعوم من واشنطن والقدس توزيع مساعدات محدودة، بعد حصار دام ثلاثة أشهر على القطاع.
وبينما رفعت دولة الاحتلال بعض القيود في 18 مايو/أيار تحت ضغط الانتقادات الدولية، لم تدخل سوى أعداد ضئيلة من الشاحنات. وتم توثيق تعاونها مع جماعات مسلحة محلية لعرقلة إيصال هذه المساعدات داخل غزة، ما يعزز مزاعمها بشأن "سوء استخدام" المساعدات، رغم غياب الأدلة.
تهميش المنظومة الأممية ومحاصرة الشفافية
رفضت منظمات الأمم المتحدة التعاون مع المؤسسة الجديدة، محذّرة من غياب الحياد واستغلال المساعدات لتقويض الوكالات الإنسانية القائمة.
ورغم ذلك، استمرت واشنطن والقدس في فرض المشروع، متجاهلتين الدعوات لاحترام المبادئ الإنسانية الدولية. وتقارير متعددة تربط بين المؤسسة ودولة الاحتلال، ما دفع خبراء إلى التحذير من توظيف المساعدات في سياسات الإخضاع والتجويع.
ومنذ انطلاقة الصندوق، واجه مشاكل تنظيمية خطيرة؛ فقد استقال مديره التنفيذي قبل البدء بعمليات التوزيع، مشيرًا إلى غياب الشفافية والنزاهة.
كما انسحبت شركة بوسطن الاستشارية، التي كانت تتولى وضع استراتيجيات العمل، بعد أسابيع قليلة، في مؤشر واضح على غياب الثقة.
توزيع رمزي في مدينة أشباح
توزعت المساعدات من أربعة مواقع فقط في رفح، المدينة التي تحولت إلى أنقاض بسبب العدوان الإسرائيلي. وتعرض المدنيون الجائعون لإطلاق نار مباشر خلال اصطفافهم للحصول على الغذاء، ما أسفر عن قتل مئات الفلسطينيين في وقت تعاني فيه هذه المواقع من نقص شديد في الإمدادات، ما يفاقم مشاعر الخوف وفقدان الأمان.
وتشبه هذه العملية "رصيف المساعدات" الذي أطلقته إدارة بايدن عام 2024، والذي فشل في إيصال الغذاء إلى المحتاجين، وانتهى به الأمر إلى خدمة أهداف عسكرية، بعدما استُخدم في عملية إنزال قُتل خلالها عشرات المدنيين. أوقفت الأمم المتحدة تعاونها مع ذلك الرصيف بعد أن اعتبرته أداة منحازة وغير آمنة.
وبحسب المجلة فإن فشل الرصيف لم يكن عرضيًا، بل كان مقصودًا لصرف الأنظار عن سياسة العقاب الجماعي ضد سكان غزة.
تواطؤ مع الجرائم الدولية
تزامنت عمليات الإغاثة الجديدة مع انعطافة قانونية خطيرة: فقد تقدّمت محكمة العدل الدولية بقضية ضد الاحتلال بتهمة الإبادة الجماعية، كما طلبت المحكمة الجنائية الدولية توقيف رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير جيشه السابق.
في هذا السياق، يُفهم إطلاق مشروع "غزة الإنسانية" كجزء من استراتيجية لتوفير غطاء قانوني يعفي الاحتلال من تهمة استخدام التجويع كسلاح.
لكن ليست المساعدات سوى وسيلة لتسهيل النزوح القسري. فقد أشار رئيس حكومة الاحتلال صراحة إلى أن الهدف هو دفع الفلسطينيين إلى مناطق محددة في جنوب غزة قرب نقاط توزيع المساعدات، تمهيدًا لتسهيل التهجير الجماعي غير القانوني. وبهذه الطريقة، تتحول "المساعدة" إلى أداة في خطة تطهير عرقي موثقة ومستمرة.
حجب التوثيق: السيطرة على المعلومات
بالتوازي، يجري استبدال منظومة رصد الانتهاكات التابعة للأمم المتحدة بمركز محلي يقع داخل مناطق عسكرية مغلقة يشرف عليها جيش الاحتلال.
ويمنع هذا المركز أي تواجد للصحفيين أو المراقبين الدوليين، ما يصعب توثيق الجرائم ضد المدنيين. إنها سياسة واضحة لفرض رواية أحادية تمنع المحاسبة.
وتصر إدارة ترامب على الاستمرار في دعم هذا النموذج، رغم علمها الكامل بنتائجه الكارثية. هذا الدعم يعرّض المتعاقدين الأمريكيين في غزة للخطر، ويزيد من عزل الولايات المتحدة دوليًا، ويقوض ما تبقى من صورتها الأخلاقية.
الأسوأ من ذلك أن هذه السياسات تغذي مشاعر الكراهية وتفتح أبواب التطرف، في مقابل مكاسب سياسية آنية تخدم حليفًا يواجه تهمًا دولية بالإبادة والتجويع.
في النهاية، لا يمكن فصل المساعدات عن سياقها السياسي والعسكري. فالهدف ليس الإغاثة، بل السيطرة والتحكم بحياة الفلسطينيين، وتغيير ديمغرافية غزة على وقع التجويع والحرمان.
كل هذا يجري على مرأى من العالم، في وقت تتخلى فيه واشنطن عن التزاماتها القانونية والأخلاقية، وتُشرعن الجريمة عبر أدوات "إنسانية" زائفة.