"يريدوني إما أسيراً وإما جريحاً وإما طريداً، لكني أقول لهم شهيداً، شهيداً، شهيداً"، عبارة لطالما رددها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وهو يعيش ظلم الاحتلال قبل عدة سنوات، ليزيد الجلاّد في طغيانه ويلاحق شعباً بأكمله.
تضييق للمنافذ، وحبسٌ دائم، ومحاصرة في قوت يومهم، سلسلة من الإجراءات التي خنقت المواطن الغزي رويداً رويداً، فلم يستطع أن يعيش يومه ولا التفكير في مستقبله، ليضطر مرغماً في الهجرة أملاً في وضعٍ أفضل له ولعائلته.
أمل كان يحف قلوب الخائضين أمواج البحر، لكن حكاياتٌ كثيرة بقيت عالقة في وسطه، لم يُكتب لها النجاة، ليبتلعها بطن الحوت، وتضيع إلى الأبد، تاركةً خلفها مرارة الفقد والألم في قلب كل من فقد حبيباً، ورغبةً في تكذيب ما حدث، علّ يوماً يعودون ليطرقوا أبواب منازلهم، ويعود الشمل من جديد.
خرج ولم يعد
محمد الرنتيسي وساجي حماد، شابان من قطاع غزة خبرا فيه الفقر والجوع والحصار، وارتبط اسمهما بمحاولات شبانه المتكررة للهجرة، خسرا الأمل بالسفر بطريقة آمنة بعد حرب طاحنة عصفت بالقطاع وقضت على مكتب سفر ناشئ كانا يتعاملان معه.
لم يعد أمامهما سوى البحر، فقررا خوضه عام 2015، في ليلة قاسية غاب فيها نور الصباح على عائلتيهما حين داهم قلوبهم خبراً ثقيلاً كثقل الغياب: "توفي الشابان دون أثر لجثتيهما"، لتمضي أربعة أعوام، ولا يزال الخبر عصياً على التصديق.
يقول والد ساجد، الأستاذ الجامعي المقعد، إن الرواية صعبة التصديق عليه، وقد أرسل عدداً من أبنائه لاحقاً للبحث عن مصير نجله، برغم كل تأكيدات الجهات الرسمية حول فقدانهما في كارثة غرق سفينتين كان على متنهما قرابة 250 شخصاً، قبالة بحر الإسكندرية في ذلك العام.
أما أم محمد الرنتيسي، فوجدت نفسها تقتفي أثره في السجون والمعتقلات، فتارة يأتيها خبر أن نجلها يقبع فيها داخل الأراضي المصرية، وتارة تسمع تأكيداً بموت ابنها.
وبات عشرات المهاجرين من غزة في عداد المفقودين، بعد الغموض الذي اكتنف حادثة غرق سفينة المتوسط في 10 أيلول/سبتمبر عام 2014، وتلتها حادثة غرق سفينة ثانية قبالة شواطئ الإسكندرية في 12 أيلول/سبتمبر، وسفينة ثالثة قبالة السواحل الليبية في 14 أيلول/سبتمبر من العام نفسه.
مخيمات الاعتقال
"من يموت فقد نجا من الحياة بأعجوبة"، يدرك هذه المقولة جيداً شبان وقعوا فريسة عصابات الهجرة على الحدود التركية اليونانية.
يدفع هؤلاء الشبان مبلغاً يصل إلى 4 آلاف دولار مقابل الهجرة إلى اليونان، باعتبارها المرحلة الأقرب للوصول إلى أوروبا، "الحلم الموعود" بالنسبة لهم، لكن اليونان تحولت إلى محطة لاستقبال جثث الغارقين أو مخيمات اعتقال واسعة لمن يصل ويبقى على قيد الحياة.
وقد سجلت وسائل التواصل الاجتماعي عدداً من الفيديوهات تظهر محاولة شبان فلسطينيين الانتحار في تلك المخيمات، نتيجة ما يقاسونه.
ويرصد الناشط الإنساني الفلسطيني إبراهيم العبادلة الأوضاع الإنسانية القاسية للشبان الفلسطينيين في مخيمات الاعتقال في اليونان، قائلا: "يتعرضون للإهانة والإذلال وصولاً للموت، وأن أوضاع الشبان المقدر عددهم 1800 شاب في مراكز الاعتقال في أثينا هي غاية في السوء".
ويشير العبادلة إلى أن هناك اعتقاداً سائداً أن من يصل إلى اليونان يجد الجنة، اعتقادٌ خاطئ تسبب بكوارث للشبان وللعديد من العائلات الفلسطينية القادمة من غزة، وغالباً تتعامل الشرطة مع هؤلاء الشبان بطريقة غير قانونية، وبعضهم أرجعته السلطات إلى تركيا مرة أخرى.
ويبيّن أنه تم تسجيل وفاة 18 شاباً من غزة غرقوا في نطاق الحدود الإقليمية لليونان خلال العامين الأخيرين، فيما لم يعرف عدد من غرق في نطاق الحدود الدولية.
ويوضح لـ "وكالة سند للأنباء" أن عدد اللاجئين الفلسطينيين الذي غادروا اليونان خلال العامين الأخيرين لم يتجاوز 20% من نسبة المقيمين المتبقين، وذلك نتيجة الإجراءات المشددة التي تتخذها اليونان في محاولة لمنع تسرب اللاجئين إلى الدول الأوروبية.
ويلفت العبادلة إلى أن عدداً كبيراً من الشبان وقعوا ضحية عمليات نصب واحتيال من عصابات التهريب والاتجار بالبشر، ويتعرض اللاجئون في مراكز الإيواء باليونان إلى السرقة والنهب.
وحول دور السفارة الفلسطينية تجاه هؤلاء الشبان، يبين العبادلة أن السفارة لا تتعامل معهم مطلقاً، وتعتبر دخولهم غير شرعي، كما أنها لم تتحرك أساساً لمعرفة طبيعة أوضاعهم الإنسانية الكارثية.
سفينة 2014
بموازاة ذلك، يعرّج العبادلة على قضية المفقودين في سفينة 2014، وأن من نجا فقط هم 4 شبان من أصل 400 شخص كانوا متواجدين على متنها.
ويذكر أن عملية الغرق كانت في عرض البحر خارج حدود المياه الإيطالية أو اليونانية، ولم تخرج أية جثة وقتها، كما أن السلطات لم تعتنِ بانتشال تلك الجثث.
وينوه العبادلة إلى دور السفارة التي كانت مطالبة بإصدار تقرير حول الحادثة التي جرت منذ 4 سنوات، لكن إهمالها للأمر أبقى الأمور في دائرة التكهن، وترك العائلات تنتظر أبناءها من دون أن تصدق وفاتهم، فلا هي رأت جثثاً ولا سمعت خبراً رسمياً يقطع شكّها باليقين.