الساعة 00:00 م
الخميس 18 ابريل 2024
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.72 جنيه إسترليني
5.35 دينار أردني
0.08 جنيه مصري
4.04 يورو
3.79 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

مكتبة المعمداني من رُكن ثقافي إلى مقر إيواء للجرحى والمرضى!

"عادت إلى غزة بتكتك"

عائشة اللولو .. "إسرائيل" قتلتها مرتين!

حجم الخط
الطفلة عائشة اللولو
غزة - سند

قشعريرة دافئة أصابت قلب الأم، في آخر مرة قالت لها ابنتها عائشة: "تعالي احضنيني، أنا بحبك كتير ماما" حيث بدا صوتها أكثر رقّة هذه المرة، تعانقا بحرارة، ثم نَظرت لعينيّ طفلتها وأخبرتها أنها حين تكبر ستُصبحان صديقتان مقربتان.

كانت عائشة مريضة ليلتها، أمها مُنى حاولت تخفيف ذلك عنها، بالحديث عن تحضيراتها لشهر رمضان، ومن أيّ المحلات ستشتري فستان العيد وإكسسوراته هذا العام، وكالعادة ستختاره مدللة العائلة "على ذوقها".

 فَرحت عائشة لذلك، كان صوتها متعبًا، طلبت من أمها أن تضع يديها على رأسها، ليخفّ الوجع وتتمكن من النوم.

عائشة اللولو (5 أعوام ونصف) طفلة مُحبة للحياة، كانت تَحرص دائمًا على أناقتها، ومظهرها الجميل، تقول أمها: "مثلًا حين تعرف أن زائر ما قادم إلينا، تذهب فورًا تُرتب نفسها، وتُهذب مظهرها، لتبدو أجمل ما يكون".

هي أول حبّات السكر في عائلتها من الإناث، كَبرت أمها معها لحظة بلحظة، عشقت تفاصيلها الصغيرة، وتعلقت بها كما تعلقت هي بوالدتها، وعدتها أن تكون علاقتهما معًا أعمق من علاقة أم بابنتها.

لكنّ عائشة لم تعد هنا ! لقد رحلت يوم الجمعة الماضي، فوجع رأسها كان سببه ورم خبيث في الدماغ، ولم تسمح "إسرائيل" لوالديها بمرافقتها للعلاج في القدس، فذهبت مع سيدة لا تعرفها، وخضعت لعملية جراحية صعبة، ظلّت تبكي وتطلب أمها حتى راحت في غيبوبة.

عادت إلى غزة، ولم يمهلها المرض كثيرا ففارقت الحياة تلك البريئة، وظّل شعورها بالوحدة، جرحُ غائر في قلبيّ والدايها.

بداية مرضها

كانت تُعاني عائشة من صداع شديد في الرأس، وهزل، ونحول في الجسد واستفراغ متكرر، وحين عُرضت على الأطباء في القطاع، تبيّن أنها "نزلة معوية"، وصُرفت لها الأدوية اللازمة، لكن حالتها الصحية لم تتحسن وأوضاعها كانت تسوء يومًا بعد يوم.

يقول والدها وسام لـ "سند": "أعدنا الفحوصات مرةً ثانية، وثالثة، وعُرضت على المشافي الحكومية، والخاصة، لكنها لم تتحسن مع الأدوية، بل كانت حالتها الصحية تزداد سوءًا، ساورنا الشكّ والخوف، أصرّت أمها عليّ عرضها مرة أخرى على الدكتور".

بين بكاء الصغيرة عائشة، وخوف والديها، كان الكثير من الرجاء والدعوات المبللة بالدموع أن يُسلّم فراشة البيت من السوء، وبعد العديد من الفحوصات، ودخولها في غبيوبة وإصابتها بالتشنج كل نصف ساعة، تبيّن في صورة الأشعة ورم كبير في الدماغ، ويجب استئصاله فورًا.

لم يكن سهلًا على الوالدين هذا الخبر، ولم يكن لديهما ما يفعلانه لابنتهما سوى طمأنتها بأنها ستعود للبيت بعافيتها، "مرض عابر يا بابا" هكذا قال لها والدها، والغصّة تأكل قلبه.

معاناة التنسيق

بعد أيام من اكتشاف المرض، ومعاناة عائلة الطفلة عائشة في تنسيق ورقة لعلاجها في الخارج، تم رفض والديها كمرافق لها لصغر سنهما، وتم رفض الجدة والعمّة كذلك، كل ذلك كان يسير، وعبارة الأطباء تؤرق تفكيرهم" كل ساعة بتتأخر، تؤثر سلبًا على صحة طفلتكم".

"إذَا يجب أن تُسافر لوحدها، لإنقاذ حياتها" هذا الخيار الأصعب الذي اتخذته عائلتها، فحياة "فراشتهم" أهم من أي شيء آخر.

 لكنهم أُخُبِروا أن سفرها لوحدها لا يمكن أن يتم، وعليهم ترشيح مرافق، يرافقها خلال رحلة علاجها.

أخيرًا تم قبول إحدى السيدات من معارف العائلة، لكّن عائشة لا تعرفها، ولم تلتقَ بها من قِبل، تقول والدتها منى بصوتٍ موجوع: " لم أخبرها بموضوع السفر، إلا قبل خروجها بنصف ساعة، لم أكن أريد تدمير نفسيتها، فهي رغم مرضها وتعبها الشديد، كانت سعيدة بوجودنا حولها وخوفنا عليها".

وفي سؤالي عن ردت فعل الطفلة حينما عملت عن أمر السفر، تُجيب بعد تنهيدة: " بكت بكاءً شديدًا، رفضت الفكرة، هي لا تعرف شيئًا عن السفر، ولا لماذا أنا لا أستطيع مرافقتها، ظلّت تبكي في حضني، طوال الطريق المؤدي للمعبر بيت حانون "إيرز"".

كانت نظرات عائشة لوالديها تحمل الكثير من العتاب "لماذا سأذهب وحدي؟، وإلى أين أنا ذاهبة أصلًا؟، ومن هي تلك التي سترافقني في رحلة المجهول؟".

 كل هذه الأسئلة كانت دموع الطفلة تطرحها على الوالدين، فهي لا تعرف عن عنصرية الاحتلال الإسرائيلي شيء، ولا عن سياسته الظالمة حتى بحق الأطفال الفلسطينيين أمثالها، هي فقط تعرف أن والديها لم يتركاها للحظة طوال حياتها، فلماذا الأن ذهبت وحدها؟

كانت الحشرجات تخنق صوت والدها وهو يحدثنا عن تلك اللحظة "ما بعرف كيف تركتها؟، الطفل يحبّ وجود والديه معه في كل تفاصيل حياته، فكيف في مرضه؟ وليس أي مرض، يا إلهي نحن في أيّ زمن!".

بعد أيام من دخولها مستشفى المقاصد، في "إسرائيل"، جرت العملية بنجاح، وتم استئصال الورم، وفاقت عائشة من الغيبوبة.

 التفت حولها، نادت: "ماما"، عادتها مرةً أخرى، لكنّ صوت أمها الحاني لم يُجبها، _كما العادة_ سألت: "وين بابا؟" فهو عادةً يظّل واقفًا على رأسها حينما تمرض، أخبرتها المرافقة أنهما سيأتيان قريبًا لها، وعليها الاهتمام بصحتها لتكون كالفراشة عندما تلقي بهما، لكنّها لم تسوعب فكرة عدم وجودهما، أدى ذلك لفقدانها الوعي ليومين متواصلين.

بعدها تحدثت عائشة مع عائلتها، عبر الهاتف، لم تقوى على سماع صوتهما، فراحت في نوبة بكاء شديدة، كانت الأم تحاول تصبير نفسها، كي لا تضعف ابنتها أكثر من ذلك، وبعد محاولات أقنعتها أنها تُرتب أمورها لتأتي إليها فطمأنت قليلًا.

وفي كل مكالمة بين عائشة وعائلتها كان يتكرر الموقف ذاته، وفي كل مرة تسوء الحالة النفسية بموازة حالتها الصحية، امتنعت عن الطعام، والتزمت الصمت أحيانًا، والبكاء في أحيانٍ كثيرة.

وبعد مرور فترة على تواجدها بعيدًا عن أهلها، تُعاني المرض لوحدها، بين أناس لا تعرفهم، توقفت أيضًا البكاء، ولم تعد أمها تسمع سوى أنين خافت، تُناديها، تُذكرها بألعابها، وبالفلوس التي خبأتها معها قبل السفر، لتشتري في العيد دُمية العروس التي تُحبها.

 أسمعتها صوت حسن _أخوها الصغير_ وضحكاته وهو يُنادي عليها "عش" لكنّ لا مجيب، كأنها استلمت للمرض، وللصدمة النفسية التي تعرضت لها بعد سفرها دونهما.

خلال تلك الفترة، حاولت العائلة مجددًا وتواصلت مع مؤسسات حقوق الإنسان، والجهات المعنية، لاستبدال المرافق، بأحد من عائلتها، لكن لم يكن هناك أي استجابة.

إدارة المستشفى أخبرت العائلة بضرورة بما معناه "يجب أن تعود لغزة، وتعيش آخر أيامها بين أهلها، فنحن لا نستطع فعل شيء وهي بهذه الحالة".

"عادت إلى غزة بتكتك"

وبالفعل عادت عائشة، لكن ليس بسيارة إسعاف_كما يجب_ ولا بسيارة طبيّة، وإنما على "تكتك" يُحدثنا والدها: "كلمنا مؤسسة الهلال الأحمر، وطلبنا منهم توفير سيارة إسعاف، فأجلونا لليوم التالي، فاتصلت بهم، لكنهم أخبروني عدم قدرتهم على توفير اسعاف، فالأمر يحتاج لشهر على الأقل".

وبعد محاولات، تم تخصيص سيارة أجرة، لنقلها، وعند الحاجز بين "إسرائيل" وقطاع غزة، كان يجب نقلها إلى الباص، لكن لضيقه لا يمكن لعائشة المسجيّة على إحدى مقاعد المعبر، التواجد فيه، فتم نقلها إلى قطاع غزة "بتكتك".

نُقلت الطفلة إلى مستشفى الرنتيسي بغزة، وأخبر الأطباء عائلتها أنها "تعدّ أيامها الأخيرة"، خلال تلك الفترة لم تفرح عائشة مجددًا بوجود أهلها حولها، ولم تنعم بحضن أمها الدافئ، ولا حتى برؤيتها، فهي عادت من "إسرائيل" فاقدة للوعي والبصر، وقدرتها على الكلام.

أيام قليلة مرّت على وجود عائشة في غزة، ثم رَحلت لتنام نومتها الأبدية دون وجعٍ أو بكاء، سافرت إلى ربّها وكل رجاء هذا الملاك الطاهر، لقاء يجمعها بوالديها وعائلتها على أعتاب أبواب الجنّة، بعدما حُرمت منهم في أشد ظروفها حلكة.