ثلاثة عشر عاماً، ممدٌ على سريرٍ أبيض، يقاوم الحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، آلامه كانت وقوداً يسير بها إلى تحقيق حلمه الذي لطالما رافقه طيلة الوقت، قبل أن يشاء القدر ويُجلسه طريح الفراش.
في غرفة العناية المكثفة بمستشفى شهداء الأقصى بدير البلح وسط غزة، أمضى الشاب ناصر البحيصي (22 عاماً) حياته، محاصراً بين شللٍ رباعي وجهاز تنفس اصطناعي، يجذب من خلاله هواءً يطيل في عمره حتى تحقيق مراده.
كفاحٌ مستمر
في الثامنة من عمره، وفي عام 2006 كان على موعدٍ مع حادث سير صعب، حوّل حياته بشكل كامل، وسلبَ منه حريته في الحركة، إلا عزيمته التي امتلأ قلبه بها، ومضى يكمل دراسته غير آبهٍ بكل الصعوبات التي تقيّده.
وبصمودٍ وعزيمةٍ متواصلة، أنهى البحيصي دراسته للثانوية العامة، وتخرج بمعدل 85% عن الفرع الشرعي.
طموحه الفريد، دفعه عام 2015 للالتحاق بقسم الشريعة بجامعة الأزهر للدراسة، وبقي في كفاحه أربع سنواتٍ حتى تكلل الحلم بالتحقيق قبل يومين، حينما لاح ضياء شهادته دنياه، ولم يعلم أنّها بمثابة اللحظات الأخيرة مع هذه الحياة.
لم تسعه سعادة الدنيا، وأزهر قلبه حينما تجمع الأحباب من حوله، يتوسطهم وفدٌ من جامعته، ليؤكد الجميع له أن الحلم باتَ واقعاً، وأن الإعاقة لم تكن يوماً حاجزاً لتحطيم الأحلام ومصادرتها، أو التخلي عنها.
دعمُ المحبين
كانَ فضل والديه عظيماً، فأهداهم كلماتُ الحب والشكر والثناء، ممتناً لكل لحظةٍ منحوها إياه من أجل مواصلة حياته، ولمْ ينس ملائكة الرحمة التي ساندته طيلة الأعوام، فكانت بلسماً لجراحه وأنيسةً تخفف عليه آلامه.
ولأن الأب سكنٌ لروح فلذة كبده، كان والده سمير البحيصي، يرافقه كل يومُ، فكان ملاذاً لابنه في وحدته، ومتكأ يميل عليه حين التعب، واليد التي تربت على كتفه وتدعمه من أجل مواصلة الطريق.
ويقول والد البحيصي " توقعت نجاح ابني، فقد كان متفوقاً منذ بداية دراسته الابتدائية، وطموحه وشغفه للعلم كانا رفيقاه أينما حل، وهذا ما دفعه لعدم الاستسلام واليأس مطلقاً".
أطباء البحيصي يؤكدون أن إرادة ناصر نابعةٌ من الايمان الشديد وثقته القوية بقدراته وذاته، فقد كان القلق يساروه كثيراً خلال فترة تقديمه الامتحانات، إلا أنّ ذلك شكل حافزاً له في كل مراحله التعليمية.
رحيلٌ بصمت
وحينما حلّ هلال الحلم بين جنبات روحه، وأغدق عليه راحةً وسكينة، وكحل عينه باستلام شهادته المنتظرة، سلمّ البحيصي روحه خالصة لله بعد يومين من تخرجه، ليرتقي راضياً عن عمرٌ لم يتخاذل فيه لحظة عن جهاد النفس وتلقي العلم.
رثي الجميع الشاب البحيصي، فقد كان نموذجاً من الأمل الذي لا ينطفأ، وشعلةً للهمة التي لا تفتر، فناضل حتى آخر نفسٍ في حياته، ليُخبر الجميع أن لا يأس مع الحلم، ولا حلم مع اليأس، والحياة جهاد.