بالصور بالرمل نرسم وجعنا: رنا الرملاوي… نحاتة غزة التي تُحيي الحكايات من بين الركام

حجم الخط
رانا الرملاوي
غزة- وكالة سند للأنباء

في غزة، حيث كل حبة رمل قد تخفي دمعة أو ذكرى، تنبض الفنون من قلب الألم وتنهض الحكايات من بين الركام. هناك، لا تُنقش القصص على الجدران، بل تُنحت في الرمل الهش، الذي وإن تبدو عليه الهشاشة، فإنه يحمل صلابة شعبٍ بأكمله.

في ركن من مخيم النزوح، تجلس رنا الرملاوي، فنانة تشكيلية فلسطينية، تنحت من رمل البحر ملامح أم تبكي على طفلها، أو لاجئة تسير بثقل الماضي، لا تمتلك مرسمًا، ولا أدوات نحت فاخرة، بل يديها وقلبها، وبعضًا من الرمل المنكوب كأهلها.

في زمن الحرب، حين يصمت العالم، تنطق رانا بلغة الفن، لتقول للعالم: "نحن لا نختفي تحت القصف… بل نعيد أنفسنا إلى الحياة، حبة رملٍ تلو الأخرى."

في قلب قطاع غزة، المحاصر بالحرب والوجع، تنهض رانا الرملاوي كأول نحاتة بالرمل في فلسطين، لتروي قصة شعبها من حبيبات الرمل التي تحيط بها من كل جانب، لا تحمل رانا شهادة جامعية في الفنون، لكنّها تحمل حسًا فنيًا أصيلاً، نشأ معها منذ الطفولة، واشتد صوته في وجه القصف والتشريد.

WhatsApp Image 2025-06-18 at 10.41.38 AM.jpeg


"الفن هو صوتي الحقيقي"، تقول رانا، التي قررت أن تترك كل شيء لأجل هذا الشغف، لتتفرغ للنحت على الرمل، وتحوّل شاطئ غزة إلى معرض مفتوح لحكايات الناس، ولرواية صامتة توجع القلوب أكثر مما تفعل الكلمات.

ولادة الحكاية من صدفة

بدأت رحلتها الفنية مصادفةً على شاطئ البحر، حين شكّلت بأصابعها شخصية نائمة، كانت التجربة الأولى، لكنها لم تكن الأخيرة، التقطت صورة لما صنعت، وبدأت بعدها رحلة طويلة من التدريب الذاتي، حتى أصبحت اليوم نحاتة تحترف تحويل الرمل إلى مرآة تعكس وجع غزة، وتمنح الذاكرة شكلًا حيًا.

الرمل لغة الوجع والنجاة

ترى رانا أن النحت بالرمل ليس مجرّد فن، بل "وثيقة بصرية، ورسالة صامتة من غزة إلى العالم". تقول لـ"وكالة سند للأنباء"،: "غزة تُباد… وإذا كانت مشاهد الموت اليومية لم تحرّك ضمائركم، فلعل صمت الرمل يحكي ما عجزنا عن قوله".

WhatsApp Image 2025-06-18 at 10.41.37 AM.jpeg


تؤمن رانا أن فنها يوقظ الضمائر، وأن أعمالها تنبض بالحكايات المطمورة تحت الأنقاض، من أمهات الشهداء، إلى الأطفال اللاجئين، وحتى الوجوه التي لا نعرفها، لكنها تركت أثرها في الرمل قبل أن تُمحى.

منحوتات تخلّد الحكايات

من أبرز أعمالها، منحوتة لأم لاجئة تحمل رضيعها وكيس طحين، تسير بجانب طفلتها الصغيرة التي تحمل الماء، وخلفهم خريطة العالم، منحوتة تجسد اللجوء والكرامة، نحتتها عام 2020، وما زالت تمثل واقعًا يتكرر في 2025 وكأن الزمن في غزة لا يتغير.

WhatsApp Image 2025-06-18 at 10.41.38 AM (1).jpeg


أما أكثر منحوتاتها تأثيرًا، فكانت لأم تحتضن طفلها الجريح، وقد بُترت قدمه، "كانت الأم تبكي وكأن الجرح في قلبها، لا في جسده"، تقول رانا، هذه الصورة، كما تصفها، تمثل وجع كل أم في غزة: "نحن لا نبكي أبناءنا فقط، نحن نعيش وجعهم".

WhatsApp Image 2025-06-18 at 10.41.38 AM (2).jpeg


معركة الرمال تحت النار

لكن هذا الفن لا يولد بسهولة، فمع اشتداد الحرب، أصبحت ممارسة النحت أكثر صعوبة، "نزحت من بيتي بعد أن قصف، فقدت أبي وأخي وعائلته، أعيش في خيمة داخل مركز إيواء، وأحمل الماء بالدلو، وأُنقّي الرمال من الركام قبل كل عمل".

حتى الرمال، لم تعد كما كانت؛ فالركام اختلط بها، والماء شحيح، لكن رانا تواصل العمل رغم كل شيء، لتؤكد أن الإبداع يولد من رحم المعاناة.

فن لا يُصدَّر… لكنه يُسمَع

وبما أن منحوتاتها مصنوعة من الرمل، فهي لا تُنقل من مكانها. لكن الصور والفيديوهات التي تنشرها وصلت إلى أماكن بعيدة. تلقت رسائل من متضامنين وفنانين حول العالم، بعضهم كتبوا لها أن منحوتاتها أبكتهم، تقول: "هذا ما يدفعني للاستمرار… أن أعرف أن صوت غزة وصل".

أحلام رغم الرماد

تحلم رانا بأن تشارك يومًا في معارض دولية، وأن تفتتح مرسمًا للأطفال في غزة، تعلمهم كيف يحكون قصصهم بالرمل بدلًا من الدموع، وكيف يحوّلون الخوف إلى جمال، والأنقاض إلى إبداع.

في رمال غزة التي عانقت الشهداء، وغسلتها دموع الأمهات، تحفر رانا الرملاوي حكاياتنا، لا تبحث عن شهرة، بل عن شهادة، أن غزة ما زالت حية، تروي، وتحكي، وتنحت وجعها في وجه النسيان.