تحت وطأة الحرب، تحولت عدسات المصورين في غزة إلى شهود لا ينطقون، لكن صورهم تنطق بأكثر مما تستطيع الكلمات أن تعبّر عنه، سهيل نصار، مصوّر فلسطيني لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره، صوّر بأكثر من خمسة آلاف صورة، توثق لحظات من الدمار والعذاب، لكنها تضيء أيضًا زوايا من الأمل والإنسانية في وجه الحرب.
معرض "غزة حبيبتي" هو أكثر من مجرد تجميع للصور؛ هو شهادة صادقة من مجموعة كبيرة من المصورين والمصورات داخل القطاع، يحكي تفاصيل الحياة قبل وأثناء الحرب، ويكشف وجهًا آخر لم تُروَ قصته إلا هنا، في لقطات تُضيء وجوه الضحايا، وتخلد اللحظات الإنسانية وسط الخراب.
وانطلق المعرض من مدينة ميونيخ الألمانية في 23 حزيران/يونيو 2023، وما يزال مستمرًا حتى اليوم، متنقلًا بين أكثر من 15 دولة حول العالم، بدأها من دولة الكويت، التي كانت أول من احتضن صوته العربي، ليتحول إلى منصة متنقلة تنقل حكاية غزة من قلب الركام إلى قلوب الشعوب.
"صور الوداع"..
يقول سهيل نصار، مصوّر فلسطيني من قطاع غزة: "شاركت في معرض "غزة حبيبتي"، الذي جمع أعمال نخبة من الفنانين والمصورين الفلسطينيين من مختلف أنحاء الوطن والشتات، كان المعرض بإشراف الأستاذ محمد بدارنة، الذي تواصل معنا عبر منصة "إنستغرام" واختار من كل مصوّر مجموعة صور تحمل قصصًا إنسانية، وتحمل في طيّاتها وجع الأرض وأمل الناس."
ويعبر "نصار" عن أهمية المعرض الذي جال في نحو عشرين دولة، بينها دول أوروبية وعربية كالكويت، ويصفه بأنه "كان بحقّ من أضخم المعارض العربية الحديثة، استقطب جمهورًا متنوّعًا، لامس أرواحهم، وأثار نقاشات طويلة حول الهوية، والأمل، والمأساة، والإنسان."
ويسرد في صوره كيف حرص على توثيق العلاقة التي لا تنفصم بين الإنسان وأرضه، مشاهد تتأرجح بين الأمل والحنين، وبين الموت والحياة، مُضيفًا: "ولكن الحرب أعادت تشكيل هذه العلاقة، منحت الصورة عمقًا آخر، ونقلتها من لحظة توثيقية إلى سؤال وجودي: من نحن؟ وماذا تبقى منا؟ وكيف نمضي رغم هذا الخراب؟"
ويعبر "نصار" عن ألمه في تصوير لحظات الوداع، قائلًا: "صور الوداع كانت الأصعب والأثقل أثرًا، لحظات التشييع، النظرات الأخيرة على الأجساد الباردة في ثلاجات المستشفيات، الملامح المغمضة التي لم تُكمل حلمها، كل هذا يطرح سؤالًا يتكرر داخلي: هل نحن مستعدون للموت؟ كيف نتصرف حين ينادي القدر؟ هذه الصور لم تكن مجرد وثائق، بل مفاصل روحية تقلب قلب المصور قبل المشاهد."
ويقول إنه لم يكن دائمًا قادرًا على التقاط الصورة، ويفصح: "أحيانًا تشلّني الصدمة، وأحيانًا لا أقوى حتى على رفع الكاميرا، وفي بعض المواقف، الألم كان يتغلب على كل حرفة، لا نُصوّر فقط لأننا صحفيون، نحن بشر قبل كل شيء."
ويؤكد على أهمية أن تحمل الصورة رسالة أمل، موضحًا: "رغم كل هذا، حاولت دائمًا أن أزرع الأمل في الصور، فالصورة المؤلمة يجب أن تكون محمّلة برسالة، أخلاقية وإنسانية، لا مجرّد صدمة عابرة، ولا نريد للعالم أن يتأثر للحظة، ثم ينسى، نريد لصورتنا أن تبقى، أن تقول شيئًا، أن تُحدث تغييرًا."
ويروي حادثة إصابته أثناء تغطية قصف مستشفى الأقصى، ويقول: "كنت في خيمة الصحفيين حين انفجرت القذيفة، أول ردّة فعل كانت أن أفتّش وجهي عبر الكاميرا لأرى ما حدث، ثم قلت لنفسي: ما دمت فتحت الكاميرا، فلنوثّق، رغم الألم، لا بد أن تبقى هذه اللحظة حيّة في ذاكرة العالم."
ويشدد "ضيف سند: أن سلامة المصوّر أهم من أي صورة، مضيفًا: "كثيرون يرفضون التصوير احترامًا لخصوصيتهم وألمهم، وهذا حقّهم الكامل، ونحن لا نملك الكاميرا فقط، نحن نحملها بمسؤولية."
ويعبر عن رسالة المعرض والصورة في نقل الحقيقة، مضيفًا: "رسالتنا من خلال هذا المعرض، ومن خلال كل صورة، أن نقول الحقيقة، أن نحكي عن وطننا، عن الأرض التي نحبها، ونتمسك بها رغم الموت، لا نريد للعالم أن يتعاطف فقط، بل أن يعرف، أن يعلم أن حقنا لن يضيع، ما دام خلفه مطالب."
ويؤكد على أنه لم يغادر غزة، قائلاً: "لم تُتح لي الفرصة لمغادرة غزة، ولا حتى لزيارة أي من هذه المعارض التي جابت العالم، وبقيت في غزة طوال عمري، أسير الحصار، محرومًا من التنقّل، والحرب أغلقت كل الأبواب من جديد."
ويصف ضيفنا كيف أن كل فعل في بلدٍ محتلّ يصبح شكلًا من أشكال المقاومة، مضيفًا: "التعليم، الصحافة، الفن، الطب، كلّها أدوات نخوض بها معركتنا من أجل الوجود، والصورة ليست فقط لحظة، بل وثيقة، وحكاية مضادة للرواية الإسرائيلية، التي لا تكتفي بسرقة الأرض، بل تحاول طمس الذاكرة وسرقة التراث."
ويقول "نصار" إن المصوّر الفلسطيني يحمل كاميرته كسلاح، ويوضح: "يوثّق، يواجه، يعيد رسم الحقيقة، في وجه السطو على المطبخ والتراث والفلكلور، في وجه محاولات تحويل تاريخنا إلى "مادة قابلة للاقتباس"، نقف نحن، بالكلمة، بالصورة، بالمقابلة مع كبار السن، نعيد تثبيت الرواية، ونُحييها."
ويختم ضيفنا عن أهمية الدور الثقافي كمقاومة، "دورنا لا يقل أهمية عن أي مقاومة على الأرض، نحن نبني ذاكرة، نكتب حضورنا، ونثبت أن الأرض لنا، وأننا هنا، باقون، سنعود، وسنصوّر يوم العودة من البحر إلى النهر".