"لستُ أروي بطولاتي، بل خرجت من السجن لأقول إنني أمٌ لثلاثة أبطال تجرعوا مرارة الحرب بغياب الأب والأم مرة واحدة"، هذا ما تُردده الأسيرةُ المُحررة أسماء شتات في كل حديث لها بعد عام قضته بين الزنازين وعذابات السجون الإسرائيلية، إثر اعتقالها هي وزوجها من وسط قطاع غزة خلال حرب الإبادة الجماعية.
أسماء شتات- اسليم (42 عاماً)، معلمةٌ للتربية الإسلامية في مدارس مدينة دير البلح وسط قطاع غزة منذ أكثر من 15 عاماً، تتخذ من الطباشير سلاحاً لنشر العلم والحق بين صفوف الطالبات، وهي أُم فلسطينية لثلاثة أطفال تصفهم بـ"الأبطال الثلاثة" أنجبت أولاهم بعد رحلة علاج استمرت 8 أعوام.
عُرِفت "شتات" بين عائلتها بـ"الحنونة سريعة الدمعة"، صاحبة القلب الرقيق "الذي لا يحتمل"، لكنها لم تكن تعلم أنها على موعد مع فصل في حياتها هو الأشد قسوة وإيلاماً أمام قلبها "الهيِّن الليِّن".
ساعة الاعتقال.. ليلةٌ لا تُنسى
ففي ليلة ظلماء شديدة الحُلكة وافقت تاريخ الـ30 من مارس/ آذار 2024، قبل سويعات بسيطة من سحور ليلة 20 رمضان، اقتحمت قوة إسرائيلية خاصة منطقة "البِركة" في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، تحت غطاء ناري مكثف من الطائرات المُسيَّرة والقذائف المدفعية والبحرية، بحدث لم يتعدَّ ساعة ونصف.
وأحاطت القوة الخاصة محيط خيمة السيد عرفات شتات، الذي تردد اسمه في هدوء الليل من طائرات الـ"كواد كابتر" التي عبَّأت السماء، "عرفات سلم نفسك إنتَ محاصر"، قبل أن تصيبه في قدميه وتقتاده أسيراً على وجه السرعة! دون أن تعرف زوجتَه ما حلَّ به.
وفي اللحظة نفسها اقتحمت القوة الإسرائيلية خيمة الأسرة المتواضعة، شارعةً بالضرب المبرح والسحل على السيدة "شتات"، أمام مرأى أطفالها الثلاثة الذين لم تتجاوز أكبرهم عامها الـ13
وفي أقسى المشاهد التي كانت كابوساً قاسياً على قلب السيدة "شتات"، حيث كان الدم يقطُرُ من وجهها، وقد طرحت القوة الخاصة أبناءها الثلاثة أرضاً وكبلتهم وصوَّبت أسلحتها على رؤوسهم من كل جانب، "مين بدك نقتل قبل؟ جنى ولا ياسر ولا محمد"؟ وكرد طبيعي لأي أم "اقتلني اقتل أبوهم، ولا تمس حدا منهم".
انتهى الحدث، لكن رحلة العذاب قد بدأت للتو، لتلحق السيدة "شتات" بزوجها أسيرة، ويبقى مصير أطفالها الثلاثة مجهولاً بالنسبة لها.
رحلة العذاب الذي لا ينقطع..
تُعيدنا "شتات" إلى رحلة العذاب التي بدت لها وكأنها "فيلم من الخيال"، لتبدأ طريق المعاناة في سجون الاحتلال التي وصفتها بـ"مقابر الأحياء"، تُقاسي فيها شتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، والتهمة بسيطة "أنتِ من غزة".
وفي تفاصيل رحلة الاعتقال تقول "شتات"، إنها تعرضت لأقسى أنواع التحقيق فور وصولها إلى سجن عسقلان، حيث مكثت أسبوعين في عزل انفرادي عُوقبت فيه بـ"البرد".
وتسهب في حديثها عما واجهته حينها: "وضعوني في زنزانة متر في متر أسبوعين، وأخفضوا درجة التكييف إلى أبرد درجة طيلة تلك الفترة، وحرموني من الفراش، والأغطية ما تسبب لي بآلام في الأعصاب والعظام".
وتتهم إدارة سجون الاحتلال "شتات" بـ"المقاتل غير الشرعي" الذي يشكل "خطراً" على "إسرائيل"، لافتةً إلى أنَّ هذا الوصف الذي تُطلقه إدارة السجون على كُل أسيرٍ من قطاع غزة.
وتلفت ضيفتنا النظر إلى أن إدارة سجون الاحتلال تحرم أسرى غزة من التواصل مع المحامين وعوائلهم، تحت ذريعة أنهم "يشكلون خطراً على إسرائيل فلا يجب أن يروا محامياً".
وتضعنا "شتات" بعد نقلها إلى سجن الدامون في صورة السياسات العدائية والانتقامية التي تنتهجها إدارة السجون في التعامل مع الأسيرات الفلسطينيات، والمعاملة التي وصفتها ضيفتنا باللا إنسانية واللا أخلاقية المتبعة من السجانين وإدارتهم، محاولين إلحاق كل أشكال الضرر بهنَّ وعلى رأسه النفسي.
وتُركز "إدارة السجون" بشكل كبير على التعذيب النفسي للأسيرات، والمتمثل بالسب والشتم والضرب والتجويع، واستمرار حرمانهن من الأغطية والملابس ومواد التنظيف والمعقمات والاحتياجات النسوية، متجاهلةً حالاتهن الصحية والمرضية، واستخدام المزاجية المفرطة في تقديم الأدوية والعلاج، وفقاً لما ذكرته ضيفتنا.
وتزيد ضيفتنا، لم تكتفِ إدارة السجون بهذا فحسب، بل وصل الحال لأن يتم تخريب كل ما تُزود به الزنازين من أدوات، مستذكرةً بعض المواقف حيث عمدت حراسة السجن إلى كسر جميع فراشي الأسنان قبل إعطائها للأسيرات.
أما عن أصعب أيام الاعتقال -كما ذكرت ضيفتنا- هو الذكرى الأولى لـ"طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2024، حيث اقتحمت وحدات القمع الخاصة زنازين سجن الدامون مخرجة جميع الأسيرات إلى ساحة السجن، معصوبات العينين، مقيدات اليدين يجثون على أقدامهن، تهاجمهنَّ الكلاب البوليسية، وسط سيل من السب والشتم ورش الغاز الخانق.
وترى "شتات" من هذا الإجراء تحديداً تأثر الاحتلال بحدث السابع من أكتوبر، الذي وضعهم في صورة الضعف والفشل الأمني والاستخباراتي، محاولين تفريغ غضبهم على الأسيرات داخل السجون.
أشد المواقف وأقساها..
ولا تنفك "شتات" تردد بدموع عينيها "كانوا دائماً يهددوني بأولادي"، مُستذكرة طريقة الاحتلال القذرة في تعذيبها نفسياً، بإخبارها أن أطفالها الثلاثة قد استشهدوا، وذلك في كل مرة يتم استدعاؤها إلى التحقيق.
وتزيد، "ليس ذلك فحسب بل أحضروا لي صورة مضللة لبيتي على تطبيقات الذكاء الاصطناعي تُظهره وقد تعرض للقصف الإسرائيلي"، لافتةً "ولم أعرف حقيقة الأمر إلا بعد أن جاءتني البشرى من محاميةٍ لإحدى الأسيرات كانت عائلتي قد تواصلت معها".
أما عن أكثر عذاباتها إيلاماً، مواجهتها بزوجها في سجون الاحتلال، حيث استدعتها إدارة سجون الاحتلال واستدعت زوجها إلى مكان واحد، مُهددةً كل واحدٍ منهما بالآخر مقابل الإقرار بتهم الاحتلال الواهية.
وبرجفة في صوتها ودموعها التي انهمرت كشلال الماء، تقول: "تمنيت أموت ولا أشوف حبيبي عرفات في هيك مشهد ولا أتهدد بقتله"، مُعبِّرة في حديثها عن تعلُّق كبير وحُب أكبر تكنه في صدرها لزوجها وشريك حياتها بحلوها ومرها.
"نصنع الحياة من اللاشيء"..
لم يقف بؤس السجون وعذابه عائقاً أمام "شتات" والعديد من الأسيرات اللاتي خلَقن حياةً من العدم؛ لـ"التعايش" مع الواقع الأليم الذي فُرِض عليهنَّ قسراً وقهراً.
فها هي "شتات" باتفاق مع باقي الأسيرات في زنزانتها المكونة من 12 أسيرة، شرعن فترة الأسر بحفظ أجزاءٍ من القرآن الكريم، وعمدن إلى تفسير بعضه، بينما تعلمت ضيفتنا اللغة العبرية قراءةً وكتابةً وحواراً داخل الزنزانة، قائلةً "تعلمت العبرية وأنا بكتب الحروف في الهواء"، نظراً لمصادرة إدارة السجون الأقلام من الزنازين.
وبلهجتها التي مزجت بين الغزية والسورية تحدثنا "شتات" عن بعض مواقف التحدي التي لا تنفك الأسيرات عن اتباعها للتخفيف من آلامهنَّ، فبعد أن عمدت إدارة السجون إلى مصادرة "إبر الخياطة"، لجأت الأسيرات إلى استخدام الدبابيس الورقية الصغيرة في الخياطة.
وتتابع حديثها "كنا نستعين بالدبابيس الصغيرة التي تثبت بها إدارة السجون أوراق المهام والاتهامات، ونصنع منها إبراً تساعدنا على التخييط"، مستدركةً "لكن تعنت الاحتلال ومنعه أدنى احتياجات العيش، أصبح يزودنا بالورق دون تدبيس، بعد علمه باستخدامنا لها".
وفي تفاصيل لطيفة، تستذكر "شتات" مع مراسلة "وكالة سند للأنباء"، إحدى رفيقاتها في السجن والتي طرَّزت بالإبر التقليدية والخيطان المُنتزعة من أغطية رأسهنَّ، أسماء أبناء ضيفتنا الثلاثة على قميص لها.
وكان هذا القميص بمثابة الروح لها تضم يدها على صدرها تلمسه ثم تغطُ في النوم، الذي سرعان ما يتكدر بسبب إجراءات إدارة السجون القمعية، من تفتيش ليلي، وإشعال للإضاءة والمياه،
"لم تتركني رحمات الله"..
واستكمالاً لحديثها الماتع، تُخبرنا أن رحمات الله كانت تحيطها في كل لحظة كانت تقف فيها على حافة اليأس، مُنتظرة إشارة واحدة تُعيد لقلبها وهجه الذي خبى.
تقول:" لم أكن أعرف أي شيء عن أولادي طيلة 7 أشهر وأكثر من الأسر، وفي كل مرة أدعو الله فيها بأن يُطمئن قلبي، يأتيني الخبر السار".
وتحدثنا عن موقف "لا تنساه" كانت ليلة شديدة هطول المطر، تدعو الله فيه بأي إشارة تُقر عينيها بأولادها، فما كانت إلا لحظات حتى سمعت تكبيرات الأسيرات من زنزانة أخرى يُنادين باسمها، " أسماء، أولادك عايشين التحقوا بحلقات حفظ القرآن في غزة"، ويتوالى الصوت "زوجك أبو ياسر بخير بوصلك حبه وشوقه".
انهمرت عيناها بالدموع وخرَّت ساجدة تحمد الله الذي لم يخيبها، وعن سؤالنا كيف عرفت ذلك تجيب:" كانت إحدى المحاميات في زيارة أسيرة من الضفة، وتحمل معلومات عن أولادي بعد أن تواصلت معها عائلتي من غزة"، ومنذ ذلك الحين في كل زيارة للمحامية، تُبشر "شتات" بخبر عن أولادها.
عانقت حريتها.. "أخيراً غزة"..
وعن تلك اللحظة المُنتظرة بعد عام من الأسر، تنسمت أسماء شتات حريتها في 27 فبراير/ شباط 2025، في الدفعة الأخيرة لصفقة تبادل الأسرى بين فصائل المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل".
وتُعبِّر "شتات" عن لهفتها لتلك اللحظة المنتظرة لحظة اللقاء بأطفالها الثلاثة وأفئدتها الثلاثة "على أحر من الجمر".
وفي مشهد تبكي له القلوب تلتقي "شتات" بأطفالها "الأبطال الثلاثة"، بعد أن ظنت كل الظن أن لا تلاقيا، واصفةً هذه اللحظة "كإني ولدت من جديد"، مستدركةً بقولها "لكني أنتظر الروح تعود لهذا الجسد حديث الميلاد برؤية حبيبي عرفات حُراً بين أحضان عائلته".