في وسط شارع عمر المختار شرق مدينة غزة، يقف إسماعيل قاسم ويُكنى بـ "أبو زهير" على بسطته الصغيرة، كما يقف جبلًا وسط العواصف، يُجهز المعجنات والمناقيش بأيدي مليئة بالخبرة والحنان، لكنّ هذه المرة، ليس بالفرح الذي كان يعرفه زبائنه الدائمون، بل بالألم واليأس الذي يعتريه.
كانت بسطته وكأنها قلب ينبض بالحياة في وسط المدينة، مصدرًا للفرح والتواصل والأمل للكثيرين، لكن عندما هبت عواصف الحرب، تحولت هذه البسطة الصغيرة إلى موقع للخراب والدمار، حيث جاءت القذائف والتفجيرات كموجة هائجة تجتاح كل شيء في طريقها، محطمة أحلام "أبو زهير" ومشروع حياته.
وانطلق صدى اسم "أبو زهير" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كأنغام ساحرة تجذب الزوار والمتذوقين من كل مكان، ليصبح معلمًا سياحيًا ينير درب كل من يتوجه إليه، بحلوى الأمل وجودة الخدمة.
والآن، وسط هذا المشهد المأساوي، يقف "أبو زهير" يائسًا ومكلومًا، يحاول بين أنقاض ماضيه المحطم استعادة بقايا الأمل، يتأمل فيما كانت عليه بسطته الصغيرة ويتساءل في صمت مؤلم: "أين ذهبت أحلامي؟ أين ذهبت سعادتي؟".
لم تنته حكاية الألم عند فقده لمشروعه، بل فقد منزله المكون من خمسة طوابق في حي الزيتون شرق مدينة غزة، لكنّ الخسارة الأكبر كانت في ذلك اليوم المشؤوم الذي رحل فيه ابنه أحمد، وكان عمودًا أساسيًا في مطعمه، حيث فُتحت جراحه على يد جنود الاحتلال وهو يسعى لجلب كيس من الطحين عبر دوار الكويت، في ظل ما عانته غزة من حصار ومجاعة قاسية قبل عدة أشهر.
صراع الأحلام وسط مرارة الحرب..
يقول "أبو زهير" (45 عامًا) بنبرةٍ مُثقلة لـ "وكالة سند للأنباء"، "ضاع تعب وجهد وسهر 15 سنة، بدأت على عربة صغيرة، ثم دكان، حتى افتتحت مطعمي الأثري قبل الحرب بعدة شهور".
وبعزيمةٍ يعلوها الصبر، يضيف ضيفنا:"لم أقتنع بالاستسلام، بل عدت إلى مهنتي بكل قوة. بدأت بتحضير بعض أنواع المعجنات باستخدام المواد المتوفرة، وأخبزها بنفسي على نار الحطب، فالإيمان بالعمل هو ما يحفزني دائمًا للمضي قدمًا".
ويسرد "أبو زهير" بكلماتٍ من الألم، "تقلّب أسعار المواد الأساسية وعدم انتظام وصولها إلى غزة يجعل العمل متعبًا للغاية، فنواجه تحديات هائلة في توفير الأجبان والزعتر والصلصة والبهارات، وهو ما يجعلنا نواجه تحديات جديدة كل يوم".
ويُكمل قائلًا، يُفضِل الناس زيارة "المطعم الجديد" حتى وإن كان موقعه على قارعة الطريق، إلا أن الأوضاع المالية الصعبة بعد مرور ثمانية أشهر على الحرب تجعل الحصول على "منقوشة" أمنية للبعض.
ويستطرد "أبو زهير"، "كان المطعم يعتبر رمزًا لتاريخ غزة بحجارته وتصميمه المعماري والمقتنيات التي تعلو جدرانه، حيث كانت تتجمع المئات يوميًا لتناول المعجنات واستكشاف جمال داخله، بالإضافة إلى استقباله لشخصيات ووفود عربية وأجنبية".
ويُعبّر "ضيف سند" بمشاعر أثقلتها الحرب، "أتوق إلى لحظة العودة، وأحلم بإعادة بناء مطعمي المدمّر الذي يخيم عليه الحزن في كل زيارة، أحلم باستعادة اللحظات السعيدة لاستقبال زبائني من جديد بابتسامتي التي فقدتها أوجاع الحرب، وأرى في ذلك شرارة الأمل تتوهّج في عتمة الظروف الصعبة.