الساعة 00:00 م
الأحد 12 مايو 2024
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.67 جنيه إسترليني
5.26 دينار أردني
0.08 جنيه مصري
4.02 يورو
3.73 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

خاطر: حرب غير مسبوقة على الأسيرات والضرب هو التطور الأخطر

خاص بالصور أحمد خديش.. عودة مؤقتة لحضن أمه بعد إبعاد لأكثر من نصف قرن

حجم الخط
أحمد خديش
نابلس - وكالة سند للأنباء

أن تعود لوطنك، لمسقط رأسك، ولحضن أمك بعد طول غياب، تتحسس يديها وتتأمل تجاعيد وجهها التي خطتها السنوات في غيبتك، كم تغيّرت وجوه من تعرفهم، وتبدلت ملامح "الحارة" التي كبرت فيها، هذا الشارع كم بدا ضيقًا بعد أن كان يجمعك مع أقرانك الذين غادروا الحياة أيضًا في غيبتك، أخوتك وأخواتك الذين تركتهم صبية، باتوا الآن أجدادًا!

ليست رواية من وحي الخيال، أو مشاهدًا من فيلم سينمائي، إنما الحقيقة المرّة التي كُتب على الفلسطيني أحمد خديش (70 عامًا) من مخيم بلاطة شرق نابلس أن يعيشها بتفاصيلها، بعد أن أمضى غربة قسرية عن وطنه لأكثر من نصف قرن، حتى حظي قبل أيام بزيارة خاطفة لحضن أمه وعائلته، يسابق بها الزمن ليشبع من حنانها، ويملأ رئتيه من هواء الوطن، ويسجد سجدة الشكر على أعتاب المسجد الأقصى المبارك.

اثنان وخمسون عامًا، مرّت أيامها ثقيلة على قلبه، وهو يتجرع مرارة الغربة بعيدًا عن أحبته، متنقلًا بين الدول، باحثًا عن الاستقرار، كحال الفلسطينيين منذ أن جثم الاحتلال على أرضهم وأصبحوا لاجئين في بقاع الأرض.  

على أحر من الجمر انتظرت "أم أحمد" ابنها البكر، ومعها أبناؤها وأحفادها في منزلها القديم وسط المخيم، وما أن أطلّ أحمد من الباب حتى أطلقت زغاريدها وأتبعتها بموال "أهلا بهالطلة أهلا.. أهلا بهالعين الكحلا.. ضحكتلك وردات الدار.. وقالتلك أهلا وسهلا".

أما أحمد، الذي خرج من هذا الباب شابًا يافعًا، يعبر الآن منه وقد كسا الشيب رأسه، منكبًا على يدي وقدي أمّه مقبلًا، يشتم رائحتها ويروي ظمأه من حنانها.

373022081_621649956721236_8882957582119004282_n.jpg
 

بداية الحكاية..

في عام 1971، غادر أحمد أرض الوطن، ولم يكتب له زيارتها إلا لمرة واحدة قبل 27 عاما، ليعود مؤخرًا في زيارة خاطفة لا تزيد عن ستة أيام، في عودة مؤقتة للوطن، بانتظار العودة الحتمية لبلدته إجزم قضاء حيفا.

كان أحمد يحدثنا وهو ممسك بيدي والدته ويجلس ملاصقا لها يستمد منها الدفء والحنان الذي حرم منه وهو في ريعان شبابه حتى بلغ السبعين من عمره.

ويقول لـ "وكالة سند للأنباء": "ألم الغربة طويل وشديد، وليس سهلا على الإنسان أن يفقد أهله ويعيش بعيدا عنهم في الغربة، هناك فرق بين أن يعيش شبابه وهو في كنف والديه وبين أن يعيش في الغربة".

ويكمل: "كنت شابا صغيرا، اعتمدت على نفسي، فلم يكن لي أي قريب خارج فلسطين، وكنت وحيدا في الإبعاد، ولهذا عانيت بشدة في حياتي".

وعن تفاصيل إبعاده القسري يخبرنا أنه انخرط في شبابه في العمل الفدائي، واعتقل رفاق دربه وحكموا لسنوات طويلة، وتمكن هو من مغادرة الوطن والسفر في العام 1971، قبل انكشاف أمره، ووضعه على لوائح الممنوعين من العودة.

وعلى إثر ذلك لجأ أحمد إلى لبنان والتحق بالجامعة للدراسة، وما لبثت أن نشبت الحرب الأهلية، فاضطر للانتقال إلى مصر، وأكمل دراسته الجامعية في جامعة الاسكندرية.

ويسرد: "رغم ظروفنا المادية الصعبة، إلا أن والدي رحمه الله كان يتمنى أن يكون أولاده من الطبقة المثقفة، وأن نرتقي في العلم ونتخرج من الجامعات لنخدم وطننا".

وعن أكثر ما آلمه في غربته يحكي: "لحظات التخرج من الجامعة كانت صعبة جدًا، عندما لم يكن معي أحد من عائلتي، بينما جميع زملائي عائلاتهم يحتفلون بهم".

ولصعوبة الاتصالات بين البلدان العربية وفلسطين في تلك الحقبة، فقدَ أحمد الاتصال بأهله لـ 25 سنة، واتجه إلى العراق للعمل في التعليم، وتزوّج هناك وكوّن عائلة كبيرة، قبل أن يغادر العراق، ويلجأ للأردن، ويستقر بها مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية.

وأتيح لأحمد زيارة وطنه لأول مرة  عام 1996 بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، وعاد مع من عادوا واصطحب معه عائلته، والتقى والده الذي كان لا يزال على قيد الحياة، وكان يخطط في تلك الزيارة للبقاء والاستقرار في وطنه، لكنه اضطر للسفر مجددا، حيث لم تدم زيارته سوى لشهر واحد.

373452604_1526533711485662_7448918553560311985_n.jpg
 

أما هذه الزيارة فقد جاءت بعد خمسة شهور من الإجراءات "المعقدة"، حتى تمكّن من الحصول على تأشيرة زيارة لستة أيام فقط.

وعن ذلك يحدثنا: "الحمد لله أن يسّر لي هذه الزيارة لأبرّ بوالدتي وأصل رحمي، وأزور المسجد الأقصى الذي حرمت من زيارته".

يمسك بيد والدته بحرارة، ويعود بذاكرته لأيام الصبا، ويردد: "كانت أمي تسهر معي في بيتنا القديم على ضوء السراج لأذاكر دروسي حتى حصلت على شهادة التوجيهي، كانت تخرج بعد الفجر لتأتي بالحليب الطازج من قرية بلاطة البلد لنشربه قبل توجهنا إلى المدارس".

ولشوقه لأمه وتفاصيلها، يحرص أحمد على ملازمتها منذ وصوله، مقررًا ألا يفارقها حتى موعد سفره.

وعما مضى من مناسبات ولحظات صعبة وأخرى سعيدة مرّت في إبعاده القسري، يروي لنا: "أصعب اللحظات بالغربة عندما جاءني نبأ وفاة والدي قبل 15 عاما، بذلت كل الجهد لكي أعود وأودعه وأشارك بتشييعه، لكن الاحتلال رفض ولم يسمح لي ولم يعبأ بهذه الحالة الإنسانية".

سنوات الإبعاد الطويلة أفقدته أيضا الكثير من أصدقاء الطفولة وزملاء الدراسة، ومن بقي منهم حيًّا وجد صعوبة في التعرف عليه، كما لم يتعرف على أبناء إخوته.

والدة المبعد والأسير..

أم أحمد، الخنساء الفلسطينية التي شارفت على التسعين، تعتبر معلمًا بارزًا من معالم مخيم بلاطة بحجابها الذي اتخذته من الكوفية الفلسطينية، عانت كثيرا بغياب أحمد في إبعاده، وشقيقه خالد المعتقل منذ العام 2003 ومحكوم بالسجن المؤبد مرتين و25 عاما.

وتعبّر "أم أحمد" عن فرحتها البالغة بعودة أحمد وإن كانت لفترة قصيرة لا تكفي لتعوض سنوات طويلة من الفراق، وتقول: "دخوله علينا بعد الغربة الطويلة أدخلت الفرحة لدارنا.. نسأل الله أن يرد كل غائب عن أهله وأن يجتمع بأهله وأحبائه وأن نفرح بعودة أسرانا وخروجهم من سجون الاحتلال".

373472321_1282007389126011_353659081520961756_n.jpg
 

كانت السنوات تمر على أم أحمد وهي لا تدري ماذا فعلت بها وبابنها، وتحكي بدهشة: "عندما سافر أحمد كان شابا وعاد إلينا عجوزا، أما أنا فكنت صبية وعاد ليجدني عجوزا طاعنة في السن".

فرحة كبيرة غمرت أحمد بعودته إلى مسقط رأسه ورؤية الأهل والأحباب، ولا ينغص فرحته إلا رؤية عقارب الساعة وهي تدور لتذكره باقتراب موعد الفراق.

372091445_3481515868729482_1534506267488094362_n.jpg