الساعة 00:00 م
الإثنين 06 مايو 2024
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.66 جنيه إسترليني
5.24 دينار أردني
0.08 جنيه مصري
4 يورو
3.72 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

قنابل وصواريخ غير متفجرة.. خطر يداهم حياة الغزيين

عدنان البرش .. اغتيال طبيب يفضح التعذيب في سجون الاحتلال

بالصور وجع الفقد يتمكّن من عائلة قاسم.. أغلى الأحباب صاروا شهداء

حجم الخط
عائلة قاسم - فقد الأحباب (1).jpg
غزة – آلاء المقيد - وكالة سند للأنباء

في لحظاتٍ ما، تبدو الكلمات سخيفة بلا قيمة أمام ألمٍ يحاول صاحبه شَرحه لمن حوله، فهذه عائلة "قاسم" من مدينة غزة، أصابها الفقد في الحرب الإسرائيلية الوحشية التي دخلت شهرها السابع، بأعز ما تملك بَكرها "محمد" وزوجته وابنهما البَكر "روحي"، ومنْ بَقي حيًا يعيش وسط مأساة إنسانية تزداد بؤسًا يومًا بعد آخر.

في مقابلة شجيّة طغت عليها لغة الدموع وبحة حزينة، تروي عائلة "قاسم" من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة لمراسلة "وكالة سند للأنباء" قصّة الفقد الذي طرق باب منزلهم قبل نحو ثلاثة شهور، وانفطرت قلوبهم بسببه إلى حدٍ لا يُحتمل، فمنْ رحل عن دنياهم "حبيب إمه" و"صاحب أبوه"، مصطحبًا معه زوجته: "حنونة علينا كأنها بنتنا"، ونجلهما "رَوحي" ابن الـ 16 ربيعًا الذي وَعد جدّيه بأن يحقق حلمهما بأن يصير "طبيبًا قد الدنيا".

منذ بداية الحرب نزحت عائلة أبو محمد قاسم قسرًا من مخيم الشاطئ غربًا عدة مرات إلى مراكز الإيواء ومنازل الأقارب هنا وهناك داخل المدينة، إلى أن استقرت أخيرًا في منطقة الشيخ رضوان شمالًا بعد أشهرٍ من التشتت والمعاناة.

تقول الوالدة المكلومة نعمة قاسم، إنّهم كانوا يعيشون منذ بداية الحرب مع عائلة ابنها "محمد"، يتقاسمون رغيف الخبز وشربة الماء، والترحال من مكان لآخر "المهم أن يبقى جميعنا بخير أو نتقاسم القدر ذاته".

لكن بعد أن هدد الاحتلال منزلًا قريبًا من المكان الذي لجأت إليه عائلة "قاسم"، اضطر "محمد" أن ينزح بعائلته الصغيرة إلى منطقة النفق شرق غزة حيث يسكن أهل زوجته، ومنذ ذلك الحين ظل القلق عليهم يُرافق والديه: "كنّا نخاف من أي اتصال ومن أي صوت انفجار، ونترقب حضوره على أحر من الجمر".

عائلة قاسم - فقد الأحباب (2).jpg
 

طوال فترة نزوح "محمد" عن والديه، كان يحاول ألا يبتعد كثيرًا، إذ كان دائم الزيارة لهما؛ ليطمئن عليهما ويهوّن عليهما بـ "حنيّته الفائقة" ويلات الحرب، كما أنّه لا يستطيع أن يفوّت أكلات أمه التي لها نَفس متفرّد يجعل طعامها "ولا أزكي".

لكن مع اشتداد الأوضاع الميدانية في مختلف مناطق محافظتي غزة وشمالها، لم يكن بإمكان "محمد" زيارة والديه يوميًا كما كان يفعل مسبقًا، وهنا صار الخوف أكبر عليه وعلى عائلته الصغيرة_ والكلام لوالدته_ "لولا أننا نستودعهم لله كل لحظة مؤمنين بأنه خير حافظ، لا أدري ماذا كان سيحصل بنا!".

الغذاء الأخير..

قبل موعد الفاجعة بأسبوع، اتصل به والد "محمد" عليه داعيًا إياه ليُشاركهم وجبة "الغداء من تحت إيدين الحجة"، تُحدثنا: "كان الأكل شحيحًا وأصناف الطعام بدأت بالنفاذ من الأسواق، بالتالي ستكون لأكلة العتاقي (دجاج كبير السن) مذاق مختلف عند الجميع".

وتُضيف: "والله حبيبي ما رضي ياكل إلا لما أقعد جنبه على السفرة، أطعمته وأطفاله الأربعة بيدي، تأملتهم كثيرًا، تمنيت لو يقف الزمان عند هذه اللحظة، أو لو يهبني الله معجزة ما، تُدخلهم إلى رحمي، وأحفظهم بقلبي إلى أن تضع الحرب الوحشية أوزارها".

هذه هي اللحظات الأخيرة التي جمعت عائلة قاسم على سفرة واحدة، قبل أن ينفطر الوالدين بفقدٍ جعلهما "دائمي البكاء على من رحل".

عائلة قاسم - فقد الأحباب (3).jpg
 

بينما كانت تعجن "أم محمد" الدقيق بيديها لخبزه على النار، سمعت صوت زوج ابنتها يرد على مكالمة هاتفية: "له يا شيخ.. كيف؟"، انتفض قلبها، دارت وجهها نحوه فتنبّهت إلى انكماش ملامحه، عرفت حينها أن أمرًا ما قد حدث.

بصوتٍ مرتجف سألته "خير شو فيه" وبداخلها بركان من الخوف، رد عليها: "دار محمد انقصفت" راح تفكيرها إلى المنزل الذي أخلاه في مخيم الشاطئ بنبرة رضا قالت: "فداه كل الدور المهم هو وعائلته بخير".

نفي سريع وصادم "لأ يا عمتي، الدار التي يسكنها حاليًا، قصفوها عليهم"، تنهار الوالدة المكلومة بالبكاء ثم تحاول التماسك قليلًا لتُكمل حديثها: "حاول تخفيف وطأة الصدمة عليّ، فأخبرني أنهم مصابون وقد تم نقلهم إلى المستشفى".

هذه الأم أيقنت في داخلها أنّ شيئًا ما، ينتظرها وهو من أعظم البلايا، طلبت منهم برجاء دموعها أن ترافقهم إلى المستشفى، لكنهم رفضوا؛ بحجة أن الأوضاع الميدانية في الخارج صعبة للغاية، ظلّت تتأرجح على نار الانتظار: "عدّهم طلّوا الحبايب.. يا رب كلمة يمه من صوت محمد تنسف كل التخيلات السيئة، لكن كل دقيقة يومها كانت أثقل من أختها".

بعد ساعتين من صراعٍ قاس وصعب، نادى أحفادها بأعلى صوتهم: "هيهم أجو يا ستي"، تردف: "فكرت ابني محمد وزوجته وأولاده، هرعت إلى باب المنزل لأضمّهم في حضني وأهدأ من رَوعهم وفزعهم، لكن هنا كانت الفاجعة، (عظم الله أجرك محمد وزوجته وابنه روحي استشهدوا).

عائلة قاسم - فقد الأحباب (5).jpg
 

لم تستوعب "أم محمد" مفردات كلمة استشهدوا، يعني ماتوا خلص؟ ما أصعبها يا الله، راحت في غيبوبة ولم تستفق منها إلا بعد حين، ولا تزال تبكي بحرقة كلما تذكرت أنهم "صاروا من الماضي وفي عداد الراحلين".

بَقي من ذرية "محمد" ثلاثة أطفال يتجرعون حسرة الفقد مع أجدادهم وهم: شام (8 أعوام)، ويزن (12 عامًا)، وأصغرهم زين (عامان ونصف).

"زين" آخر العنقود الذي كان يرافق أمه كظلها، تُخبرنا جدته أنّه "ظل شهرًا كاملًا يطلب والديه، لا يعرف طعمًا للنوم يبحث عنهما هنا وهناك علّه يجد طيفًا يُكذّب هذا الكابوس".

الآن هل تعايش مع فكرة بعدهما؟ سألناها، فسبقت دموعها الإجابة: "قبل فترة قصيرة زرنا بيتنا في المخيم، أول ما دخلنا هرع زين كالملهوف إلى الغرف والمطبخ هنا وهناك، بحثًا عن والديه، بعدها سألنا وين ماما وبابا؟ وانفتح الجرح من جديد".

إنسانٌ قريب من أبويه، لا يعتبرانه ولدًا فحسب، إنما هو الصديق والمؤنس الذي يهوّن عليهما مصاعب الحياة.

عائلة قاسم - فقد الأحباب (4).jpg
 

تسهب ضيفتنا في الحديث عن صفات ابنها علّ ذلك يُعطي لنا تفسيرًا عن مدى تعلقها به: "هذا حبيب أمه، حنون فوق التصور، واصل لرحمه، يسبق إخوانه في كل المناسبات، لينال رضانا وبركة دعائنا له، يُسعدنا لو بأبسط الأشياء في شهر رمضان والأعياد".

بينما يصف والده روحي قاسم خبر استشهاد نجله بـ "أسوأ خبر تلقيته في حياتي"، مستدركًا بنبرةٍ رضا: "اللى من الله يا محلاه، لكن الفراق صعب جدًا، وهذا محمد مش أي حد!".

وبالكاد استطعنا لملمة الحروف من صوت "أبو محمد" الذي خنقته الحشرجات، وهو يحكي عن وَقع الصدمة عليه: "كلما مررت من مكان المنزل الذي قُصف فيه، أرتمي في الفراش لأيام، لا أقوى على تقبل فكرة أن هذا الركام انهال على أجسادهم الطاهرة، بينما تطاير أبنائه الناجين في الشوارع من شدة القصف".

لم يستطع هذا الرجل من قهره إكمال الحديث معنا لكنّه لخّص علاقتهما بـ "محمد" بهذه الكلمات: " هو قريب إلينا بطريقة لا تُوصف، صاحبي وسندي، كنت بشوف فيه الدنيا والأمل وكل شيء حلو".

حلم "الدكتور" صار تحت الركام..

روحي محمد قاسم (16 عامًا) حفيد العائلة الأول سمي تيمنا بجده لأبيه، وكان من أحبّ وأقرب الأطفال إلى قلوب من حوله، التحق مؤخرًا بالمعهد الأزهري بمدينة غزة، وسط سعادة غامرة ما سرّها؟

تقول جدته إنّه طالب ذكي جدًا، ودائمًا ما يُفرحهم بشهادات التفوق التي ينالها من مدرسته، وعد أهله بأن يصير طبيبًا ويُحقق حلمهم المنتظر، فالتحق بالمعهد الأزهري، ليُوفر له منحة دراسية في الجامعة؛ بسبب ظروفهم المادية الصعبة.

"بدي ألبي طلب ستي وأصير دكتور قد الدنيا" كان يردد هذه الكلمات على مسامع من حوله كلما سألوه عن سرّ الاجتهاد في الدراسة، لكن لم يُكمل "روحي" الشهر في المعهد الأزهري حتى جاءت الحرب، وقضى فيها، وضاع حُلمه تحت الركام.