رغم مضي 222 يوماً على آلة الدمار والتقتيل الإسرائيلية، ورغم نجاح طيران الاحتلال ودبابته في تدمير أكثر من ثلثي منشئات غزة، مخلفاً شلال دم لا يتوقف، ومجازر لا تنتهي، وضحايا يصعب حصر أسمائهم، رغم ذلك كله لا تزال المقاومة محافظة على تماسكها وقادرة عن إعادة تنظيم صفوفها، وضرب الاحتلال بقوة.
تنظيمٌ أقر به ضباط كبار في الجيش الإسرائيلي وترجم عملياً بسلسلة عمليات نوعية، تبنتها فصائل المقاومة خلال الأيام القليلة الماضية واحدة في إثر أخرى، حتى ضاقت وضجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الإخبارية.
كمائن نوعية، عمليات قنص وتفجير عبوات ناسفة، إطلاق صواريخ وقذائف صوب المستوطنات الإسرائيلية، مُسيّرات تحمل الموت، تجول في السماء وتصفع "المركافا" الجاثمة فوق رمال غزة، تفخيخ أنفاق وتدمير منازل فوق رؤوس جنود ظنوا أنهم في مأمن.
رفح.. النشوة الكاذبة
في الوقت اتجهت فيه أنظار الجيش الإسرائيلي صوب رفح جنوباً، وانتشى فرحاً بوصول دباباته لمعبر غزة البري الوحيد، وتصوير ذلك على أنه إنجاز عسكري يمكن التغني به، عادت كتائب المقاومة للعمل مجدداً في شمال غزة.
تلك المنطقة التي أعلن عنها الاحتلال أكثر من مرة أنه استطاع القضاء على جيوب المقاومة فيها، وتمكن من كسر شوكتها وتصفية غالبية عناصرها، لتعود من جديد، فتبعثر أوراقه وتُخّيب ظنونه، ولتعود بورصة أعداد القتلى والمصابين من جنود الاحتلال للارتفاع مجدداً.
مخيم جباليا، رفح، حي الزيتون، كلها أماكن كانت شاهدة على ضراوة المعارك التي خاضتها المقاومة مع جنود الاحتلال خلال الأيام الماضية، معارك حوّلت دبابات الاحتلال لأكوام من الخردة المتناثرة، وأدخلت قادة الجيش الإسرائيلي في مرحلة يأس واستياء.
استياء واحباط عبّر عنه صراحة قادة عسكريون كبار في جيش الاحتلال لوكالة "رويترز"، حين أعلنوا عن تزايد شكوكهم بشأن أهداف الحرب على غزة، مع عودة القوات الإسرائيلية إلى ساحات القتال القديمة في القطاع.
ونقلت "رويترز"، عن ضابط الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، "مايكل ميلشتاين"، تأكيده أنّ هدف الانهيار الحكومي أو العسكري لحماس لن يتحقق، إذا واصت إسرائيل الاعتماد على استراتيجية الاستنزاف المستمر أو العمليات الجراحية ضدّها.
المقاتل المعجزة
في المقابل، ظهر رجال المقاومة بعزيمتهم وجرأتهم وكأن الحرب لتوها بدأت، وكأننا في الأيام الأولى من الاجتياح البري، القوة بادية على أجسادهم رغم جوعهم وعطشهم وظروف تنقلهم وأماكن اختبائهم.
الأمر هنا لا يبدو مستغرباً ولا مستهجناً فالقوة لم تكن يوماً في ساعد عريض ولا بعضلات مفتولة ولا بجسم طويل، إنما في طاقة تسري في الروح فتحيل الجسد النحيل الجائع لمقاتل يعد بألف رجل.
هي إذاً طاقة روحية وتعبئة معنوية تجعل المقاتل لا يرى في الدبابات والطائرات المسيرة سوى أكوام من حديد لا ترى ولا تسمع ولا تدرك، طاقة تجعل المقاتل الحافي المتخفف من ملابسه لا يرى الجندي الإسرائيلي مهما علت رتبته وتعدد دورات تدريبه الا هدفاً سهلاً يسهل اقتناصه.
لا تعرف من أين يخرجون، كيف ومتى، وكأنهم طيف لطيف، مرة تراهم على شرفة منزل مدمر يصوّبون القذيفة، ومرة يخرجون من باطن الأرض يحملون العبوات، فرادى وجماعات، قلقيلة العديدة غزيرة الأثر.
هي معركة طويلة إذن، أطول مما ظن عسكريو الاحتلال واعتقدوا، لا استقرار لهم فيها ولا أمكان ثابتة على الأرض مهما جرّفوا ودمروا وعلّو الجدران، فهم كمن يحرث في الماء، هي حرب استنزاف وعض أصابع، الغلبة في نهايتها لمن يرفع أصبع السبابة في صلاته.