تُعدّ الحرب على قطاع غزة التي بدأت في أكتوبر/تشرين أول 2023، أطول وأصعب مواجهة عسكرية خاضها جيش الاحتلال الإسرائيلي في تاريخه، وتركزت تداعياتها بشكل واضح على الصحة النفسية لجنود الاحتياط، الذين استُدعوا مرارًا وتكرارًا لفترات طويلة.
وارتفعت معدلات الاضطرابات النفسية بشكل غير مسبوق، حيث يعاني نحو 12% من جنود الاحتياط من اضطرابات ما بعد الصدمة، بينما ازدادت حالات الانتحار والتوتر والاحتجاجات داخل الجيش.
هذه الأزمة النفسية تؤثر بشكل مباشر على جاهزية الجيش، وقدرته على الاستمرار في مواجهة تحديات متصاعدة، ما يطرح تساؤلات جدية حول قدرة المؤسسة العسكرية على التعامل مع تداعيات هذه الحرب الطويلة، التي لم تؤثر فقط على الساحة العسكرية، بل طالت بشكل عميق الأوضاع الاجتماعية والنفسية للجنود والمجتمع ككل.
"وكالة سند للأنباء" تحدثت مع مختصين في الشأن الإسرائيلي، الذين أكدوا أن الأزمة النفسية في صفوف جنود الاحتياط وصلت إلى مستويات حرجة، وأن الحرب الأخيرة كشفت أوجه ضعف كثيرة في الجهاز العسكري، من بينها ارتفاع حالات الانتحار، واستنزاف الموارد البشرية والنفسية، مما دفع الجيش إلى تبني إجراءات استثنائية للحفاظ على استمراريته القتالية.
"اضطرابات جنود الاحتياط"..
يلفت المختص في الشأن الإسرائيلي، عادل شديد، إلى أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تتعاطى مع أزمة اضطرابات جنود الاحتياط النفسية بمنتهى الجدية، معتبرًا إياها تهديدًا صريحًا لبنية الجيش القتالية.
ويبيّن أن خطورة المسألة تكمن في أن كل عام يشهد تدهورًا نفسيًا لنحو 2500 جندي، وهو عدد كبير جدًا مقارنة بجيش محدود التعداد مثل الجيش الإسرائيلي.
ويُرجع "شديد" هذا الارتفاع الملحوظ في الإصابات النفسية إلى حجم الخسائر البشرية الفادحة التي تلقاها الجيش في حرب غزة، موضحًا أن مئات الجنود إما قُتلوا، أو أُصيبوا بإعاقات بالغة كبتر الأرجل أو الأذرع، ما خلَق بيئة نفسية مضطربة تزداد سوءًا بفعل صدمة المعركة وتبعاتها.
ولا يغفل "شديد" عن عامل الزمن، إذ يرى أن فترات الخدمة الطويلة، التي تمتد أحيانًا إلى مئات الأيام، ضاعفت الضغط النفسي على الجنود، خاصة حين يتزامن ذلك مع تضرر حياتهم العائلية ومساراتهم الدراسية والمهنية، ما يزيد من الشعور بالعزلة والاحتراق الذهني.
ويؤكد أن بقاء الجندي في الخدمة رغم اضطرابه النفسي يُعد مخاطرة حقيقية، إذ لا يُستبعد، بحسب تعبيره، أن يُقدم الجندي على إيذاء نفسه أو زملائه أو حتى قادته، وهو ما يحوّل هذه الحالات إلى قنابل موقوتة داخل المؤسسة العسكرية.
ومن زاوية أكثر اتساعًا، يُنبه شديد إلى أثر العدوى النفسية داخل وحدات الجيش، حيث إن بلوغ نسبة المصابين 12% يدفع العديد من الجنود الآخرين إلى محاولة التهرب من الخدمة، تفاديًا للمصير نفسه، مما يضعف الجاهزية ويقوّض الانضباط العسكري.
"خدمة طويلة الأمد"..
أما المختص في الشؤون الإسرائيلية أمين الحج، يعتبر أن الحرب الجارية منذ أكتوبر 2023 تشكل أطول الحروب التي خاضتها "إسرائيل"، وهو ما يترك آثارًا نفسية عميقة على جنود جيش الاحتلال، لا سيما جنود الاحتياط الذين يتعرضون للاستدعاء المتكرر ولخدمة طويلة الأمد، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم الأزمات النفسية في صفوفهم.
ويوضح "الحج" أن تصاعد معدلات الانتحار يوازيه انتشار مشاعر الاكتئاب والقلق، التي يفضل الجنود كتمانها خوفًا من الوصمة الاجتماعية.
وفي هذا السياق، يجد جيش الاحتلال نفسه عالقًا بين ضغط التوقعات العسكرية والسياسية واستنزاف متصاعد لقواه البشرية والنفسية، في وقتٍ تتزايد فيه مؤشرات نقص العتاد، وتراجع أعداد المجندين، واتساع رقعة التهرب من الخدمة، لا سيما في أوساط الحريديم.
ويربط "الحج" بين تفاقم الإصابات النفسية وطبيعة الحرب الأخيرة في غزة، إذ تبدأ الحرب بهجوم مفاجئ يخلخل صورة "الجندي الذي لا يُقهر"، لاسيما في ظل الخسائر البشرية الكبيرة، ومشاهد القتل والأسر التي انتشرت عبر الإعلام، الأمر الذي ضاعف من حدة الصدمة النفسية.
ويشير إلى أن جنود الاحتلال واجهوا بيئات قتالية بالغة التعقيد، تميزت بحرب مدن مرهقة، وأنقاض محطمة، وكمائن تحت الأرض، واشتباكات من مسافات صفرية، ما رفع مستويات التوتر واليقظة إلى حدود الإنهاك التام، خاصة في ظل غياب أهداف عسكرية واضحة، واستمرار المعارك لفترة أطول مما اعتاد عليه الجنود.
ويلفت "الحج" إلى أن هذه الأوضاع أدت إلى تآكل الجاهزية العسكرية، وانخفاض الاستجابة للاستدعاء، ففي حين تطوع الآلاف من جنود الاحتياط في بداية الحرب، بدأت أعدادهم بالتراجع تدريجيًا مع مرور الوقت، وظهرت علامات واضحة على الإرهاق النفسي والعجز عن الاستمرار.
ويرى "ضيف سند"، أن هذه الأزمة أفرزت تراجعًا في الانضباط العسكري وازديادًا في مظاهر التمرد، تمثلت في امتناع جنود عن الخدمة، وانتقادات علنية للقيادة السياسية والعسكرية.
ويستشهد "الحج" برسالة مفتوحة كتبها جندي الاحتياط إيران تامير، وصف فيها الحرب بأنها "خدعة"، مطالبًا بإنهائها، كما وقع آلاف الجنود رسائل احتجاج مشابهة، وتجلّى أثر ذلك أيضًا في ازدياد حالات الغضب والانهيارات العصبية، وارتفاع منسوب العنف ضد المدنيين والأسرى، ما يهدد تماسك الجيش على المدى الطويل.
ويوضح الحج أن المؤسسة العسكرية أطلقت عدة برامج لدعم الصحة النفسية، من بينها وحدات ميدانية وأخصائيين نفسيين يرافقون الجنود، إلى جانب برنامج "العودة إلى البيت"، غير أن هذه المبادرات تصطدم بثقافة سائدة تعتبر طلب المساعدة النفسية ضعفًا، فضلًا عن افتقار الشفافية في الكشف عن حالات الانتحار، ما يثير تساؤلات حول فعالية تلك الإجراءات.
ويختم بالإشارة إلى أن تداعيات هذه الأزمة النفسية لا تقتصر على الجنود فحسب، بل تمتد إلى المجتمع الإسرائيلي بأسره، إذ تظهر مؤشرات على تراجع الحافز لدى الشباب للخدمة العسكرية، مع تزايد الإعفاءات لأسباب نفسية، وتنامي الشعور بعدم العدالة في تقاسم العبء العسكري، خاصة مع استمرار إعفاء الحريديم.
"تمديد الخدمة النظامية"..
يقول المختص في الشأن الإسرائيلي، عمر جعارة، إن أزمة الاحتياط في الجيش الإسرائيلي بلغت ذروتها، في ظل تراجع حاد بعدد الجنود في مختلف القطاعات العسكرية.
ويشير إلى أن أكبر دليل على ذلك هو قرار الحكومة الإسرائيلية تمديد الخدمة النظامية لعام إضافي، وهو ما يعكس حجم العجز الحاصل في صفوف الجيش النظامي، لا سيما على حساب منظومة الاحتياط التي تتآكل اقتصاديًا ونفسيًا.
ويكشف "جعارة" أن كثيرًا من جنود الاحتياط غادروا الخدمة بسبب الانهيار النفسي والمعيشي، مشيرًا إلى وقوع حالات انتحار بين الجنود الذين جرى استدعاؤهم للمرة الثالثة أو الرابعة، وهو ما يعكس حالة من الإنهاك الجسدي والنفسي دفعت بقادة عسكريين سابقين وحاليين إلى المطالبة بتعويضات عاجلة لعشرات آلاف الجنود.
ويضيف أن هذا النقص الخطير في العنصر البشري يعود إلى الخسائر الثقيلة التي يتكبدها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، مؤكدًا أن "طوفان الأقصى" خلّف آلاف المصابين بإعاقات دائمة، وفق ما ورد في القناة الثانية عشرة الإسرائيلية، ما يجعلهم غير صالحين للخدمة العسكرية أو حتى للعمل المدني.
ويتابع "جعارة" أن هذا التدهور أثر أيضًا على قدرة الجيش في تجنيد طلاب المدارس الدينية، خصوصًا أن قادة الأحزاب الدينية يرفضون التجنيد صراحة، ويرفعون شعار "نموت ولا نتجند"، وهو ما ينذر بانفجار سياسي قد يؤدي إلى سقوط الحكومة المقبلة، في حال إقرار قانون يلزم هذه الفئة بالتجنيد.
ويختتم "جعارة" بالتأكيد على أن "إسرائيل"، ولأول مرة، تواجه حجمًا من الخسائر البشرية والمعنوية لم يسبق أن شهدته في أي حرب سابقة، سواء في 1956 أو 1967 أو 1983، موضحًا أن الإعلام الإسرائيلي بات يعترف بصعوبة انتصار الجيوش النظامية على حروب العصابات، وهو ما يعمّق شعور الهزيمة داخل المجتمع الإسرائيلي.