بالصور بين مُنهكٍ ومصاب وشهيد... كيف يبدو حال طلبة "توجيهي" غزة في الحرب مع انطلاق الاختبارات وحرمانهم منها

حجم الخط
توجيهي غزة 2024
غزة - هداية عصمت حسنين - وكالة سند للأنباء

من داخل خيمته، والتعب تحكيه ملامحه، وبعد عودته من عمله بالسوق، يبدأ طالب الثانوية العامة محمود حسنين من قطاع غزة حديثه متعجبا قائلا: "عنجد اليوم اختبار "توجيهي"؟! ياه والله ما بعرف، اندهشت، هالحرب سرقت عمرنا بجد، والوقت بيمشي وإحنا مش حاسين!!".

كان من الطبيعي أن يتنقَّل "محمود" من كتاب علمي لآخر في مثل هذه الأيام، دارسا ومجتهدا ليحصل الدرجات العلمية التي يتمناها في اختبارات "التوجيهي"، لكن المفارقة أن واقع الحرب الإبادية الآن أجبرته على التحول لبائع "بسطة" في السوق ويتنقل من بسطة لأخرى، ومن مكان عمل لآخر، وهكذا دواليك باحثا عن لقمة عيش بعرق جبينه ليشارك في إعانة عائلته الكبيرة، ويساعد عائلة أخيه الشهيد وأطفاله الصغار، وسط هذه الظروف الصعبة بالحرب، والنزوح المتكرر.

الطالب "حسنين" الذي كان يحلم بالالتحاق بدراسة الهندسة بعد "التوجيهي"، وقد حال الاحتلال دون تنفيذ خططه وتحقيق طموحاته التي باتت بعيدة المنال، وتدور في دائرة المجهول، في ظل تعليق تعليمهم إلى أجل غير معلوم، يتشابه هذا الحال مع ما يحياه آلاف طلبة الثانوية العامة في قطاع غزة.

وتحرم هذه الحرب الإسرائيلية الدموية 39 ألف طالب وطالبة في قطاع غزة من تقديم امتحانات الثانوية العامة "التوجيهي" التي انطلقت اليوم السبت، الموافق 22 يونيو 2024، فيما ارتقى قرابة 430 شهيدا من طلبة الثانوية العامة من قطاع غزة، وفقا للمتحدث باسم وزارة التربية والتعليم العالي صادق الخضور.

حلم.jfif

"حلمٌ متناثر"

لطالما كانت الطالبة أريج رمضان من غزة تنتظر هذا اليوم على أحر من الجمر، فكان من المفترض أن يبدأ يومها بحالةٍ يسودها التوتر والترقب المحمود الذي انتظرته منذ سنوات ليكون بداية الانطلاق لتحقيق حلم الطفولة الذي اشتهته، فكانت ستتواجد على مقاعد التقديم لأولى اختبارات "التوجيهي" وتتفوق باجتهادها كعادتها، لكن للحرب الدموية الإسرائيلية المتواصلة منذ 9 أشهر رأي آخر، فقد قلبت حياة "أريج" رأسا على عقب.

"كان حلمي وتخطيط مستقبلي أن أجتاز هذه الامتحانات بمعدل عالٍ، يدخلني مجال الطب وأصير أحلى دكتورة لحد ما قامت الحرب وأخذت معها أحلامي، وطموحاتي، وبيتي، ومكتبتي، وكتبي، وكل شي" بهذه الكلمات بدأت الطالبة "أريج" حديثها عن قهرها من حرمان الاحتلال لتقديمها اختبارات الثانوية العامة.

وبصوت شجي يغلب عليه الحزن، تقول "كنت كتير مجتهدة ومتفوقة، وألخص ملخصاتي اللي كتبتها بعيون أرهقها سهر الليالي، هالملخصات خبيتهم بشنطة نزوح وهربت معي من مكان لمكان، وآخر مرة افترقنا وتركت الشنطة تحت القصف، رجعت بعد الاجتياح البري أجري على شنطتي لقيت بيتي مقصوف، وأبويا شهيد، وكتبي متناثرة وممزقة على أرصفة الطرقات".

وعن شعورها الذي لا تستطيع أن تتجاوزه ضيفتنا في ظل مرور هذا اليوم مع تواصل الحرب، تعبر عنه بالقول "هذه الحرب حسستني بشعور الأسير لما قعد سنين عمره يستنى لحظة الإفراج عنه وأجى الوقت وفرح كثير ومن الفرحة جهز حاله منيح ليكون طليق، وفجأة انسحبت منه كل صلاحيات الحرية ورجع تاني لسجن، وهذا حالي مع طموحي وأحلامي بس رح أضل أكتب أنا د. أريج محمد رمضان، وحأكون بالمستقبل لو ربنا كتب لي عمر وأحياني".

"مستقبل في مهب الريح"

وبين أزقة أروقة الفصول المدرسية المكتظة بالنازحين، ووسط دخان النيران التي تشعلها لإطعام أخوتها الأطفال القائمة على رعايتهم، هكذا بدا حال الطالبة سلمى عرفات، النازحة من غزة لأحد المدراس وسط قطاع غزة، والتي فقدت خلال هذه الحرب والديها، وصارت المسؤولة عن 3 أخوة أصغر منها ترعاهم.

"كان نفسي تمضي هالأيام، وأنا بأقدم اختباراتي، وماما وبابا الله يرحمهم مهتمين فيّا وبتفاصيلي، وأروّح على بيتي اللي أصلا تدمر بغزة، على أساس أبدأ مستقبلي، وأدرس توجيهي، لكن حرفيا الآن الحلم شبه انتهى وصار "في مهب الريح"، بهذه الحروف المختنقة من بين أحبالها الصوتية تتحدث "سلمى".

ومن داخل تواجدها في مساحة صغيرة تتآوى فيها وأخوتها داخل صف مدرسي بمكان نزوحها، تحكي ضيفتنا عن مفارقة عجيبة "تخيلي معي أنا عايشة بصف مدرسي من أشهر، كنا كطلاب توجيهي بالوضع الطبيعي نغيب عن المدرسة 3 شهور تقريبا لندرس بالبيت ونرجع نقدم الاختبارات، وكل طالب يكون على ديسك تعليمي خاص فيه، هلقيت أنا زهقانة المدرسة ومظهرها، بأعيش فيها، وبصف واحد بنغيش عائلات مختلفة وأعداد كبيرة، وأحلامنا كلها مقتولة".

"السعي للشفاء هو النجاح"

وفي الحال المعتاد، يجتهد الطلبة بهذه الأوقات بكل الوسائل الممكنة والمتاحة ويستثمرون جل أوقاتهم سعيا للنجاح، لكن في غزة فكل شيء يختلف، فالطالب المصاب سعيد السقا يتنقل منذ شهر ونصف من مركز رعاية أولية لآخر؛ لتتماثل إصابته للشفاء، فهذا هو نجاحه الذي يرنو إليه الآن.

"أنا هلقيت مركّز كيف بدي أرجع أتعافى وأحاول أمشي ع رجلي اللي بتعاني من تهتك شديد بالأعصاب نتيجة إصابتي بالحرب، شفاء رجلي ومحاولة أني أمشي بدون أي مساعدة من حدا هو نجاحي، أنا بأسعى للشفاء التام هلقيت" بتنهيده قلب وحرقة ولوعة يتكلم "السقا".

"بيت مدمر وطموح مؤجل"

"رحت اليوم على بيتنا المحروق المدمر بخانيونس، دخلت البيت ورحت أدور على بقايا أغراضي وأقلامي اللي كنت مختاراهم بعناية على ذوقي، ما لقيت شي كله محروق، وكله مدمر، ما في آثار لإشي، زعلانة على حالنا كلنا كطلبة والله" هكذا بدأت ضيفتنا الطالبة فرح فارس الحديث لـ "وكالة سند للأنباء".

وفي سؤالنا لضيفتنا عن سبب ذهابها للبيت بهذا اليوم تحديدا، تجيب ضيفتنا "تكلموا معي صحباتي امبارح، كلنا تغيرت أحوالنا، اللي فقدنا بيوتنا وأهلنا وأحلامنا، وبيحكوا بكرة الاختبارات متخيلين، للحظة قلت ياه، وأجيت على البيت على أمل ألاقي أي شيء يعيد لي ذكرى أني طالبة واليوم كان يفترض أبدأ تقديم اختباراتي لأبدأ أحلامي، لكن الطموح هلقيت مؤجل، والحرب هي السبب، ولمتى ما بنعرف"!!

"درجات عليا ولكن!!"

ي.png

ومع موسم بدأ الاختبارات يكثر الحديث عن حصد الدرجات، ومحاولات تحقيق العليا منها، تتحدث رانية غنيم وهي صديقة لوالدة أم شهيد من طلبة الثانوية العامة: "يوسف توجيهي يا رانيا ادعيله ينجح شو ماجاب أنا راضية" أمه ليوسف هيا بتحكيلي هيك لما بدت السنة لكن يوسف وأمه استشهدوا.

وتختم بالقول "الكثيرون مثل يوسف يا صديقتي، ولكن الحقيقة أنكم أنت الذين تحققون الدرجات العليا، هناك في الجنة، فالمئات من طلابنا في التوجيهي حصدوا درجاتهم العليا مبكرا قبل بدء الاختبارات المنهجية العادية هذه، أما أنتم فالشهداء هم الأحياء، وأصحاب الدرجات العليا".