في عالمٍ لا يُفهمُ سوى لغة الدمار والمأساة، اضطرَّت أرواحٌ صغيرةٌ من غزة إلى ترك أرضَ الطفولة وراءها، حاملةً في أجسادها جراحاتٍ ترسمُ لوحةَ الألم والبُعد. بينهم رفيق جعرور ومحمد صالح، اثنان من الأطفال الذين شهدوا الرعب والخسارة في أحضان مدينتهم المحاصرة، حيث لم تكن الحروبُ إلا جزءًا من حياتهم اليومية المؤلمة.
تسارعت أحداثُ القصف والقتل لتُبدي الحروبُ نصب عينيها على البراءة والأمان، ولكن في ظلمة تلك الليالي الطويلة، وجد الطفل رفيق نفسَه يحتضنُ جراحاته بصمت.
أمّا الطفل الصغير محمد الذي لم يبلغ سنته الأولى بعد، يتلوّن ضوء المستشفى حول سريره الذي يحاول أن يكون ملاذًا من لهيب الحروب، لكن كوابيس الحرب أبت أن تتركه حتى وإن ابتعد عن مصدر الرعب.
كان الانتظار في مستشفيات غزة كابوسًا لا ينتهي، حيث الأيام تمتد كأنها دهور، والأمل في تحويلهما للعلاج خارج غزة كان يتضاءل مع كل شروق شمس. عائلتهما، تتابعان كل خبر وكل إشارة بقلوب ترجف من الخوف وترنو إلى قطر بلهفة. وهناك، في تلك الأرض البعيدة، كانت تكمن بارقة أمل قد تنقذ طفليهما من براثن الألم والمعاناة.
"وكالة سند للأنباء" تسلط الضوء على قصص جرحى من غزة، ويتلقون العلاج في مشافي دولة قطر، بعد أن حوّلت معاناتهم في الحرب الإسرائيلية إلى شهادات حية من الصمود والتحدي.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، أطلق أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني مبادرة لإحضار 1500 مصاب فلسطيني من غزة إلى بلده لتلقي العلاج، ووصل حتى الآن نحو 500 شخص.
"رحلة علاج قاسية"..
الطفل محمد صالح يبلغ من العمر سنة وثمانية أشهر، أُصيب في استهداف إسرائيلي بتاريخ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ جرّاء استهداف مباشر لمنزلهم في معسكر جباليا – حي القصاصين، ويتلقى العلاج حاليا في إحدى مشافي دولة قطر.
تقول الناشطة السياسية إسراء صالح وهي عمّة الطفل محمد ومتواجدة في دولة قطر، "عندما أُصيب محمد، لم يكن في المنزل سوى النساء والأطفال، زوجات إخوتي وأولادهن الثلاثة، ومحمد كان بجانب والدته وهي تصلي".
وتسرد "صالح" بنبرةٍ مُثقلة، "في الحرب، كما تعلمون، تبقى العائلة كلها قرب أبواب البيوت، بحيث إذا حدث أي قصف أو استهداف، يكونون قريبين من الأبواب، ومنذ بداية الحرب، كانت زوجات إخوتي يَنمن بجانب باب المنزل الخاص بالعمارة، حتى أن كل الأوراق الثبوتية والمهمة كانت موجودة بجانب الباب".
وتُتابع، "في اليوم الذي دخلن فيه المنزل للوضوء والصلاة، كان هذا يوم الاستشهاد، والدة الطفل محمد استشهدت بعد سبعة أيام من إصابتها، رغم العديد من المحاولات لإنقاذها، كانت واقفة تصلي عندما وقع القصف، وكان حمادة يلعب بجانبها".
تُكمل "صالح" بحزن: "عندما وصل الإسعاف، كان محمد أول من انتُشل من تحت الأنقاض وأخذوه وحيدًا إلى مستشفى الشفاء، في حين نُقلت والدته إلى المستشفى الأندونيسي في شمال غزة".
وماذا عن رحلة علاج محمد؟ تُجيبنا: "عاش محمد وحيدًا في رحلة علاجه لمدة شهرين تقريبًا، تحت رعاية أناس غرباء، بعد ذلك، حاولت جدته لأمه أن تكون معه، تخيلوا طفلًا عمره سنة، لا يسمع صوت أمه ولا يعرف شيئًا في الحياة سوى اسمه، كان ذلك أمرًا صعبًا جدًّا".
تروي ضيفتنا ما جرى مع ابن أخيها: "كانت إصابة محمد خطيرة للغاية، حيث أصيب بشظايا في الدماغ، وخضع لعدة عمليات، بدأت بعملية "شنط خارجية" التي لم تكن ناجحة، ثم عملية "شنط داخلية" التي كانت أكثر صعوبة، ولكنها أسفرت أخيرًا عن النجاح. انتظرنا لفترة طويلة من أجل نقل محمد للعلاج في الخارج، نظرًا لأن العملية تتطلب أدوات دقيقة لا تتوفر في غزة.
وعن سفر الطفل محمد إلى الخارج، توضح "ضيفة سند"، سافر محمد في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023، بعدما كان على شفا الموت في مستشفى العريش، وتأخرت رحلته لمدة أسبوع بسبب صعوبات في سحب الدم".
وتستطرد، "كان محمد لا يستجيب للعلاج بسبب سوء التغذية الحادة، حيث فقد 7 كيلوغرامات من وزنه، وكان قبل الإصابة يزن 13 كيلوغرامًا. كان يعاني من فقر حاد في الدم، وبلغت نسبته 6، بينما كانت 14 قبل الإصابة".
وتزيد "صالح"، "بعد أسبوع في مشفى العريش، وصل إلى قطر حيث خضع لأكثر من 15 يومًا للفحوصات والتحاليل لمعرفة ما تسببت به الإصابة الوحشية في جسده المتضرر، ورغم كل الإمكانيات المتقدمة التي كانت متاحة، لم نتمكن من الحد من آثار الحرب الكارثية، وعزلناه كاملًا بدون الأهل، باستثناء والدته الأخرى".
وبتنهيدةٍ سَبقت حديث ضيفتنا: "أتذكر اللحظة الأولى التي استقبلت فيها محمد بعد نزوح أسرتي من الشمال إلى الجنوب، ثم وصولهم إلى قطر لمرافقة محمد في رحلة علاجه، كانت رعايته صعبة للغاية".
وتُعبّر عن اللحظةِ الأولى لوصول ابن أخيها إلى قطر، "عند وصول محمد، كان مرعوبًا من أي شخص يقترب منه، يخاف من أن يكون غريبًا أو طبيبًا قد يؤذيه، حتى لو كان علاجًا في صالحه. بدأ يبكي هستيريًا ويعاني من نوبات تشنجية بسبب الخوف، وهو لا يزال يمر بمرحلة الصدمة التي لم تنتهِ بعد".
وتلفت، "لم يكن يعرفني من قبل بسبب غيابي، ولكن بعد شهر، هدأ بجواري كما لو كان يعرفني منذ الأزل، وكأنه يبحث عن السلام في كل يد تمتد إليه أو كل ركن في هذا العالم المضطرب".
وتذكر "ضيفة سند"، "كانت هذه المرحلة أيضًا فرصتي لأسمع عن أمراض لم أكن أعلم بوجودها في البداية، مثل بكتيريا الحروب القاتلة والمعدية (BCO)، لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي من تقديم الدعم والاحتضان لمحمد".
وتُنوه "صالح"، "لا يمكن لمحمد استخدام ذراعه اليمنى بسبب شظايا الدماغ، ولا يمكنه الاعتماد على ذراعه اليسرى بسبب الشظايا في يده وكتفه. جسده هزيل مليء بالشظايا التي تحرمه من العيش بشكل طبيعي والنمو بصورة سليمة".
وتسرد "صالح"، "محمد لا ينام لأكثر من 10 دقائق متواصلة، ولكن نجحنا في الاحتفال بنومه لمدة ساعة كاملة دون اضطرابات، رغم بعض الكوابيس التي تنتابه بسبب الحرب والتي تجعله يبكي ويستيقظ بحالة من الفزع. لكن هذه الساعة كانت لحظة نعمة بالنسبة لنا جميعًا".
وتضيف ضيفتنا، "منذ وصول محمد، لم أفهم حقًا كيف سنستمر، وكيف سنتعافى، لكن بالطبع، لن يكون الأمر سهلًا ولا يحتمل، هناك آلاف الجرحى، بمن فيهم 90 ألفًا تقريبًا، منهم على الأقل 15 ألف طفل لن يحظوا بالفرصة للعلاج، والوقت المتوقع لكل طفل للفحوصات والأشعة والعلاج يمكن أن يمتد لشهر وأكثر، في بلد لا يتوفر فيه الكثير من الإمكانيات الطبية الضرورية. ببساطة، نحتاج إلى ما يزيد عن ألف جريح لتلبية احتياجاتهم، ولكن هذا ليس كافيًا."
وتُكمل، "أعرف أن العالم يرغب في المساعدة، ولكن الجرحى يريدون السلام والهدوء، دون صوت وطبطبة، دون بكاء لا ينتهي. غزة محرومة من الإمكانيات، وليس لدي سوى سؤال واحد في كل مرة أُسمع فيها عن إبرة تخترق جسد محمد في قطر، أو عن صورة أشعة جديدة، أو علاج جديد: من سيكون مع الجرحى في غزة؟ من سيخفف معاناتهم بأقل الإمكانيات؟ وكيف سيتمكنون من العلاج".
وتُشير "صالح" إلى أن الطفل محمد كان محظوظًا جدًا بوصوله لقطر، ومستشفى سدرة من أقوى المستشفيات على مستوى العالم في مجال الطب وكذلك الأطباء فيها والممرضين والأخصائيين على أعلى المستويات من المهنية والإنسانية، كانوا إنسانيين، ويحاولون احتواء محمد بكل طريقة خصوصًا ليتعاملوا مع الخوف والرعب الذي كان يعيشه بسبب إصابته والحرب".
وجعٌ آخر.. مُصاب بشللٍ دائم!
لا يختلف كثيرًا الحال مع الطفل الجريح رفيق جعرور (14 عامًا)، تقول والدته سماهر، "نحن من سكان غزة، ونزحنا إلى خانيونس، منطقة بطن السمين، بعد شهرين من النزوح، في تاريخ 8 ديسمبر 2023، تعرضت منطقتنا لقصف من الطائرات الحربية استهدف تجمعًا للأطفال، وأصيب منهم بعضهم واستشهد آخرون، وكان ابني رفيق من بين المصابين."
وبكلماتٍ من الألم، تُعبّر ضيفتنا: "لحظة معرفتي بإصابة رفيق كانت من أصعب اللحظات في حياتي، والتحديات التي واجهتني تتمثل في عدم وجود والده وأخوته في أقسى اللحظات لابني."
وتزيد "سماهر"، سافرت أنا وابني رفيق إلى قطر في 19 يناير 2024، واستمرت رحلة علاجه لمدة 8 أشهر وما زالت مستمرة، وقضينا حوالي شهر في مستشفى سدرة، و4 أشهر في مستشفى قطر للتأهيل."
وتُكمل، "كانت تجربة المستشفى مؤلمة للغاية بسبب التعب والإرهاق والعذاب، وإصابة رفيق تركت آثارًا سلبية نفسيًا وصحيًا، ولم يستوعب عقلي حتى الآن حقيقة أنه مصاب بالشلل الدائم."
وتقول بنبرةٍ موجعة، "رفيق يعاني من الألم المستمر والخوف والصراخ، ومنذ الإصابة وحتى الآن، لم تتمكن الأطباء من التحكم في الألم لديه."
وترجع بذاكرتها قبل وقوع الفاجعة، "كان رفيق طفلًا مدللًا وهادئًا وذكيًا، لكن الآن أصبح طفلًا عصبيًا ومتعبًا للغاية، ولا يرغب في فعل أي شيء مفيد، ولا يستطيع تقبل وضعه الجديد."
وتزيد "سماهر"، "حتى الآن، رفيق لا يستوعب حالته، ونحن نواصل التأهيل له حتى يتمكن من الاعتماد على نفسه في مستشفى قطر للتأهيل".
وتضيف "سماهر"، "كل يوم، كان عذابًا في المستشفى، الألم الشديد الذي يعانيه رفيق كان يجعلني أبكي طوال الليل، كانت الليالي مليئة بالبكاء من شدة الألم، لا يستطيع رفيق أن يتحرك بسبب شلله، وكان الممرضون يلفونه كل ساعتين من جهة إلى أخرى للتخفيف من آلامه".
وتروي ضيفتنا، "اليوم الذي علمتُ فيه أنه سيتعلم كيفية تفريغ المثانة لعدم شعوره به صعبًا للغاية، كان هذا اليوم مؤلمًا بشكل لا يوصف، وكانت كل المراحل التي مر بها أصعب وأصعب، لم أكن أتخيل أبدًا ما كان يمر به، والأمور كانت صعبة أيضًا عندما كان يُحمّم ويصرخ من شدة الألم. كل ذلك كان جزءًا من رحلة مؤلمة للغاية، وآمل ألا يأتي اليوم الذي أذهب فيه إلى موعد العمود الفقري".
وفي سؤالنا عن الدعم الطبي القطري؟، تُجيب: "الدعم الطبي الذي تلقيناه من مستشفيات قطر كان في غاية الاحترام والذوق والتعاطف، وكان رفيق محبوبًا لدى جميع الأطباء."