ليست حرب إبادة للبشر فقط، بل إبادة أيضًا لكل ما قد يعين البشر على الحياة حتى ما بعد الحرب، هذا ما تسعى إليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي في عدوانها المستمر على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023.
ففي تقديرات حديثة نشرها برنامج الأمم المتحدة للبيئة أشارت إلى أنّ التأثيرات البيئية للحرب في غزة غير مسبوقة، ما يُعرض المجتمع لمخاطر التلوث المتزايد في التربة والمياه والهواء، بالإضافة للأضرار التي يُمكن إصلاحها للنظم البيئية الطبيعية.
وأفادت بوجود ما يقرب 40 مليون طن من الركام، إذ يوجد أكثر من 107 كيلوغرامات من الركام لكل متر مربع في القطاع؛ ما يُنذر بمخاطر جمة على صحة الإنسان والبيئة معًا، بسبب الغبار والتلوث بمادة الأسبستوس والذخائر غير المنفجرة والنفايات الصناعية والطبية وغيرها من المواد الخطرة.
وقدّر البرنامج الأممي أن الأضرار البيئية بحوالي 411 مليون دولار أميركي، وهو حجم الأضرار في المنظومات البيئية وخدمات البيئة الحيوية.
وعلى ضوء ذلك يُعبّر مختصون في مجال البيئة بأحاديث منفصلة مع "وكالة سند للأنباء" عن قناعتهم بأن هدف "إسرائيل" تحويل قطاع غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة، تمهيدًا لإفراغها من السكان.
وحذروا من خطورة الوضع الذي آلت إليه حال البيئة في غزة، من أضرار هائلة قد تمتد آثارها إلى سنوات طويلة، قبل التمكن من تجاوزها، مؤكدين أنّ تلك الأضرار ظهرت في الموارد المائية وتلوث المياه واستنزاف المياه الجوفية وتدهور التربة والزراعة، وإمدادات الطاقة والنظام المناخي وتدمير الموائل، عدا عن تلوث الهواء والنظم البحرية والتلوث بسبب إلقاء الأسلحة.
وفي سبتمبر/ أيلول الجاري أصدر مركز الميزان لحقوق الإنسان، تقريراً متخصصاً بعنوان "إبادة البيئة"، يوضّح فيه إبادة قوات الاحتلال الإسرائيلي لمكونات البيئة المختلفة خلال حرب الإبادة في قطاع غزة.
وقال الباحث في مركز الميزان ومعد التقرير حسين حماد، إنّ الاحتلال الإسرائيلي استهدف عدة قطاعات وعمل على تدميرها بشكل ممنهج، موضحًا أنه على مستوى المياه، تم تدمير 70% من البنية التحتية للمياه، إلى جانب 203 بئر مياه جوفية.
وعلى مستوى قطاع النفايات الصلبة، أضاف أن استهداف مكب الفخاري شرق خانيونس جنوب القطاع ومنع الوصول إليه، وعدم تمكن الطواقم المختصة من أداء عملها، أدى إلى تكدس مئات الأطنان من النفايات في الشوارع والساحات العامة.
ولفت إلى أنّ ذلك يسبب مشكلة كبيرة تضرّ بالصحة العامة للسكان، متابعًا أن "الخطورة تكمن في النفايات الطبية، والتي تقدر بحوالي 350 طنًّا تنتج بشكل يومي من المشافي، حيث توقفت عملية فرزها، وتكدست في النفايات الأخرى في مكبات مؤقتة".
وأكد حسين حماد أن الاحتلال تعمد أيضًا إحداث ضرر على الأراضي الزراعية والتربة من خلال عمليات التجريف المستمرة، وإلقاء القنابل والمتفجرات التي تحوي مواد سامة وخطرة، قائلًا: "قوات الاحتلال جرّفت ودمرت أكثر من 65 كيلومتراً مربعاً من الأراضي المزروعة".
وشدد الباحث أنّه "دون وقف الحرب لا يمكن تأهيل واستصلاح ما تم تدميره، وأن الأمر بحاجة لجهود كبيرة ومتواصلة.
متفقًا مع حماد، أكد الخبير البيئي ومدير مركز معا التنموي، جورج كرزم، أن "ماكينة التدمير الإسرائيلية دمرت أكثر من 80% من الغطاء الشجري والأراضي الزراعية في قطاع غزة، بشكل منهجي".
ولفت كرزم إلى أنّ الاستهدافات الإسرائيلية المستمرة "أدت إلى انهيار كامل للبنية التحتية المدنية في غزة، بما في ذلك معالجة مياه الصرف الصحي، والتخلص من النفايات، وإدارة المياه، وإمدادات الوقود".
وأشار إلى أنه في مدينة غزة وحدها، دمرت قوات الاحتلال 40 بئر مياه، و9 محطات صرف صحي، ومليون متر مربع من الشوارع والطرق، واقتلعت 55 ألف شجرة، كما أن 70 ألف طن نفايات صلبة متراكمة في جميع أنحاء المدينة.
وبين كرزم أنّ أكثر من "60٪ من الأراضي الزراعية في قطاع غزة دُمِّرت أو تعذر الوصول إليها بسبب العدوان، ما أثر على الأمن الغذائي للسكان.
ورأى أنّ "العدوان عبارة عن أزمة متعددة الأبعاد، والعواقب البيئية الناجمة عنه ستستمر لأجيال، ما يستلزم اتخاذ إجراءات فورية لمواجهة هذه التحديات واستعادة أكبر قدر ممكن من التوازن البيئي في المنطقة".
بدوره، رأى مدير تطوير الأراضي في جمعية الإغاثة الزراعية مقبل أبو جيش، أنّ الهدف الإسرائيلي من تدمير البيئة في القطاع، تحويله إلى منطقة غير قابلة للسكن بشكل دائم، في سعي لدفع السكان إلى الرحيل.
وقال أبو جيش لـ سند للأنباء إن الواقع يشير إلى دمار هائل ومن الصعب حصره في الوقت الحالي مع استمرار الحرب، لافتًا لوجود دمار كبير جدا من ناحية تجريف الأراضي، وتدمير مصادر المياه، وتسميم التربة بالمتفجرات وغيره".
وذكر أن "المؤشرات تدل على أن غزة بعد الحرب ستعيش كارثة كبيرة وتحتاج لجهود مستدامة وواسعة من أجل التعافي وتجاوز الحالة التي وصلت إليها"، مؤكدًا أن الاحتلال تعمد ضرب المحطات الصحية ومحطات تصريف المياه لخلق مشكلة صحية، حيث فاضت المياه في الشوارع وعجزت الجهات المعنية عن تصريفها".
وقال إن الإغاثة تعمل على "تطوير محطة التصريف الصحي والشبكات في مستشفى كمال عدوان، لكن القطاع عموما يحتاج عملا جماعيا ودعما كبيرا في كل الجوانب".
وتحدث في ختام المقابلة عن رغبة من جهات كثيرة لتقديم المساعدة لقطاع غزة، والمساعدة في التأهيل، ولكن الأهم وقف الحرب، والسماح بعد ذلك بإدخال المواد والمعدات اللازمة.
يُذكر أنّ حجم الدمار الهائل وتأثيره البيئي أدى لدعوات بالتحقيق فيه باعتباره "إبادة بيئية" حسب صحيفة "الجارديان" البريطانية، إذ ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنّ تعمد شن هجوم مع العلم بأنه سيُحدث ضررًا واسع النطاق للبيئة الطبيعية يُعد جريمة حرب.
كما تحظر اتفاقيات جنيف استخدام الأطراف المتحاربة وسائل أو أساليب "تُلحق بالبيئة الطبيعية أضرارًا بالغة واسعة الانتشار وطويلة الأمد".