الساعة 00:00 م
السبت 26 ابريل 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.83 جنيه إسترليني
5.11 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
4.12 يورو
3.62 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

بترت صواريخ الاحتلال ساقها.. صابرين وتامر ينتصران لحبهما رغم جراح الحرب

وسط الرماد.. مبادرات التفريغ النفسي تحيي أرواحًا أنهكها الرعب في غزة

غزة.. هدنة يسبقها تصعيد عسكري وهذه سيناريوهات الحرب العدوانية

بالفيديو والصور "غزة ترحب بكم من جديد" كلمة بدّدت آلام سنة كاملة للعائدين إليها

حجم الخط
غزة ترحب بكم من جديد
غزة - إيمان شبير - وكالة سند للأنباء

بعد ساعات طويلة من السير تحت الشمس الحارقة، وأقدام أنهكها التعب على طرقٍ مشققة، رفرفت أرواح أهل غزة عاليًا عندما لاحت لهم العبارة التي أعادت الحياة إلى قلوبهم: "غزة ترحب بكم من جديد."

كانت قلوب العائدين تسبق خطواتهم، وفجأة تلاشت جميع الآلام، كما لو أن تلك الكلمات "غزة" أضأت فيهم طاقة أقوى من العطش والجوع والتعب، لم تكن مجرد لوحة، بل كانت وعدًا بالعودة، نداءً من الأرض التي بقيت متجذرة في القلب عام وأشهر.

ففي كل خطوة كان الأمل يشق طريقه بين أنفاسهم المتسارعة، يُذيب المسافات ويغالب اليأس، شوقهم لم يكن مجرد عاطفة عابرة؛ بل كان صمودًا متجذرًا في أرضهم التي يعرفونها بحبات ترابها وأزقتها الضيقة.

استمعت "وكالة سند للأنباء" لمواطنين عادوا إلى غزة بعد عودة شاقة استغرقت ساعات طويلة من السير على الأقدام، عبروا عن مشاعر مختلطة بين التعب الشديد والفرح الغامر بالعودة إلى أرضهم التي طالما اشتاقوا إليها.

وفي 27 يناير/كانون الثاني الماضي، عاد 80% من النازحين إلى مناطق شمال قطاع غزة، حيث كانت هذه العودة بمثابة انتصار معنوي لهم رغم الدمار الكبير الذي حل بالمنازل والبيوت، عادوا وفقًا للاتفاق بين فصائل المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل"، حيث سلك النازحون شارع صلاح الدين بمركباتهم بعد المرور بنقاط التفتيش الدولية.

وتابع آخرون سيرًا على الأقدام عبر شارع الرشيد، متوجهين نحو محور نتساريم، الذي انسحبت منه قوات الاحتلال الإسرائيلي، في خطوة أعادت فتح الطريق إلى المناطق الشمالية التي نزحوا عنها سابقًا.

image-127-780x470.png

"روحي رفرفت"..

تسرد الصحفية هداية عصمت حسنين، بدموع الذكريات حين بدأت الحديث عن العودة إلى الشمال، حيث يتشابك الحنين مع الإرهاق في تفاصيل الرحلة: "كان يوم وداع الخيمة يومًا لا يشبه أي يوم، نزعتها من أرضها بعد أن كانت ملجأي لأكثر من عام ونصف، تنقلت فيها بين ثماني أماكن نزوح، خيمة حملت أثقال المعاناة والخوف، لكنها في النهاية باتت شيئًا أردت التخلص منه بلا ندم".

وتقول بكلماتٍ من الحنين: “عندما فككنا الخيمة، شعرت برغبة جارفة في إحراقها، وكأنها رمز لكل ما مررت به من ألم وتشريد، كنت أصرخ في داخلي: (شيلها، شيلها!) لم أكن أريد شيئًا سوى العودة إلى مدينتي العنيدة غزة، حتى لو لم يبقَ منها سوى جدران متصدعة تشبهني".

وتتابع بدموع الصبر: "الطريق إلى الشمال كان طويلًا ومثقلًا بالأحاسيس، ست ساعات أو ربما سبع مشيًا على الأقدام، لكن كل خطوة كانت ميلادًا جديدًا لي، شعرت بأن الشوق نفسه هو من دلني على الطريق. تعب جسدي، لكن قلبي كان يهرول بحب نحو بلادي".

وتصف "حسنين" مشاهد الطريق بعيون لم تفقد الأمل رغم الألم: "الناس كانوا يتكاتفون بحب، يمدون أيديهم بالماء وكلمات الطمأنينة، الحمد لله على سلامتكم، يقولونها وأنت لا تعرفهم ولا يعرفونك، لكنها كانت كافية لتعيد إليك شيئًا من الأمان".

وتُعبّر بنبرة تختلط فيها الدهشة بالأسى: "حين بدأنا نقترب من غزة، كانت الصدمة في كل زاوية، شارع الرشيد الذي كان يومًا رمزًا للرفاهية أصبح طريقًا لا تُعرف ملامحه، كنت أسأل نفسي باستمرار: ما هذه المنطقة؟ كيف تغيَّرت إلى هذا الحد؟ الدمار كان موجعًا، لكنه خلق فينا عنادًا للاستمرار".

وتتوقف "حسنين" لحظة لتلتقط أنفاسها قبل أن تستكمل بحزن عميق: "لا يمكن أن أنسى مشهد الرجل المسن الذي كان يسير بعكازه إلى جانب زوجته، تجاعيد أيديهما تروي قصة صمود عمرها سنوات طويلة، كانا يسيران ببطء لكنهما كانا يمسكان بأيدي بعضهما وكأنهما يتشبثان بحياة لم يعد فيها إلا القليل".

وتضيف "ضيفتنا" بدموعٍ تنهمر كغيثٍ مشتاقٍ للأرض، وبكلمات من الحنين لا تنضب: "العودة إلى غزة ليست مجرد رحلة، بل ميلاد جديد للروح بعد تيهٍ طويل".

وتتابع وهي تستعيد لحظة لقاء اسم المدينة على اللافتة، "أنا حين قرأتُ "غزة" أمامي، شعرت بأن روحي رفرفت، كأنني كنت ضائعة وها أنا أجد نفسي أخيرًا، لم أصدق أنني هنا، كنت أقول: هل هذا حقيقي؟ هل حقًا وصلتُ؟" وتضيف بصوت يختلط بالدموع: "والله جد... والله جد... والله جد".

feav80viqt1ytuva.jpg

"لحظة الوصول إلى البيت"..

تنتقل "حسنين" إلى لحظة وصولها إلى حي الشيخ رضوان، حيث كان في استقبالها زوجة عمها التي بادرتها بحضن دافئ: "حضنها لم يكن حضن غربة أو نزوح، بل كان كحضن المدينة التي تحتويني".

وتشير إلى شعورها حين رأت الدمار في الحي: "وقفتُ أمام كل هذا الخراب وقلت: أنا في غزة... حتى لو كان كل شيء مدمّرًا، هذا وطني".

وبكلمات تختلط فيها الحزن والحنين تستذكر لحظة دخولها بيت أخيها المدمر جزئيًا: "بكيتُ حين رأيت دراجة أخي الشهيد، شعرت بأنني خرجت إلى الجنوب دون أن أودعه، وقد استشهد ودُفن هنا دون أن نلقي عليه نظرة الوداع الأخي، كان هذا الألم طاغيًا، لكن شيئًا ما طبطب على قلبي حين رأيت اسم شارعنا وقد أصبح يحمل اسمه: 'شارع الشهيد شريف حسنان".

وتحكي عن تلك الليلة الأولى في غزة: "بعد سنة ونصف من النزوح، كنت أخبط على الحائط وأقول: حيطة! لم أكن قد أسندت ظهري إلى جدار منذ زمن طويل. البلاط تحت قدمي كان شعورًا غريبًا بعد الخيام التي لا تملك أرضًا صلبة."

وتسرد مشهدًا لابن أخيها الصغير: "حين دخل البيت المدمّر لم يتعرف عليه وقال: دار مين هاي؟ كان المكان غريبًا عليه كما لو أنه ليس بيتنا الذي ولد فيه."

وتكمل: "حتى اتجاه القبلة كان مختلفًا، أختي ظلت تصلي باتجاه القبلة التي اعتدناها في خيمتنا أثناء النزوح، وكأننا نحمل ذكريات النزوح معنا حتى في تفاصيل عبادتنا."

وتتابع بكلمات تحمل امتنانًا عميقًا: "النوم في غزة كان شعورًا لا يوصف. استقبال المدينة لنا كان دافئًا كما لم أكن أتوقع، الجدران كتبت سلامًا لنا وكأنها ترحب بعودتنا إلى حدودها."

ماذا عن جدران المدينة، تقول: "حملت كلمات ترحب بالعائدين مثل "السلام عليكم لما صبرتم، فنعم عاقبة الدار"، تلك العبارة لم تكن مجرد كلمات محفورة على الحيطان؛ بل كانت سلامًا دافئًا يخترق القلب عند اجتياز حدود مدينة غزة.

وتُعبر "حسنين"، كانت غزة مضاءة بأهلها رغم كل ما مرّوا به، الناس في الشمال والجنوب، سواء عرفوك أو لم يعرفوك، يلقون عليك التحية: "الحمد لله على سلامتك يا عام" تبدأ الأحضان تتوالى من الجيران والأصدقاء، وكأنها تعويض عن الغياب الطويل.

وتضيف: "لكن وسط هذه المشاعر الحميمية، تبقى الغصة في القلب واضحة، الدمار واسع، والمباني منهارة، والشوارع تحكي قصص الفقد والوجع، ليس فقط المباني هي الغائبة، بل هناك أصدقاء وأحباء لم يعودوا، أسماء تركت خلفها فراغًا مؤلمًا، رغم ذلك، يولد عناد داخلي لا يعرف الانكسار، يقين بأن هذه الأرض ستظل صامدة، بأهلها وبروحها التي لا تنطفئ أبدًا".

4ipj-21-730x438.jpg

"روحي عالقة في الشمال"..

لا يختلف الحال كثيرًا عما عاشته هداية وغيرها من النازحين، فكل رحلة عودة تحمل في طياتها مشاعر مختلطة من الأمل والخوف، الشوق والترقب.

تقول ريم شلدان إن خطواتها تجاه الشمال كانت تمحو ذكريات النزوح السحيق شيئًا فشيئًا، وكأنها تصحو من كابوس مرعب عاشته طويلًا في الجنوب، مؤكدةً أنها شعرت بالعودة إلى أصلها ومكانها الذي لم يفارقها يومًا رغم المسافات.

وتشير "شلدان" إلى شعور غريب بالترميم الداخلي، وكأنها تستعيد ذاتها بعد أعباء ومسؤوليات فُرضت عليها دون أن تكون بحجمها.

وتضيف "شلدان" أنها عاشت الطريق الطويل كرحلة بين الحلم والحقيقة، موضحة أن الزحام وصعوبة السير مع الجماعة أجبرها على الابتعاد عن عائلتها عدة مرات

وتذكر أنها وجدت نفسها وحيدة، ولكن دون خوف، مؤكدة أن يقينها بالوصول إلى غزة بقي حاضرًا طوال الطريق، وكأن هذا اليقين كان البوصلة التي قادتها رغم كل التحديات.

وتستطرد قائلة إن ساعات المشي الطويلة أنهكت جسدها، ليس فقط بسبب الجهد البدني، بل من وطأة الأمل الذي لم يتحقق بعد.

وتوضح "شلدان"، أنها شعرت للحظة بالعجز عن التقدم، وكأن كل خطواتها توقفت، لكنها تصف كيف رأته — والدها الذي يبحث عنها بين الحشود — مشهد جعل الزمن يتوقف وكأنها تعيش لحظة من حلم لا يُصدق.

وتشير إلى أنها احتضنت والدها وشعرت وكأن الحياة عادت إليها بعد غياب طويل، مؤكدةً أن الشوق لم يكن مقتصرًا على والدها فقط، بل امتد ليشمل البيت بكل تفاصيله، موضحةً أنهم توجهوا جميعًا نحو المنزل بعد أن اجتمعت العائلة دون أن ينقص منهم أحد.

وتلفت إلى المشاهد القاسية التي مرت بها خلال الطريق، حيث الدمار والمنازل المهدمة والحياة المسلوبة قسرًا من الناس، موضحةً أنها كانت تتساءل طوال الطريق عن الذين سيعودون ليجدوا بيوتهم قد اختفت. تؤكد أن الله حفظ لها بيتها، كما حفظ لها اللقاء الذي طال انتظاره.

وتقول "شلدان"، إنها حين دخلت منزلها، لم تتمكن من السيطرة على دموعها التي حملت صدمة البقاء وامتنان العودة، إذ تصف كيف استلقت على الأريكة في صالة البيت محتضنة حلم اليوم ومودعة كابوس الأمس.

وتعبر بكلمات سبقت دموعها، "اشتقت لكل شيء، حتى لأبسط تفاصيل المكان، وغفوت في تلك الليلة وأنا غير مصدقة بأنني عادت إلى البيت، إلى الشمال، إلى روحي التي ظلت تنتظرني هناك طوال الوقت".

"كل شيء يهون في سبيل العودة"..

أمّا المواطنة نور أبو حصيرة تشعر بأن مرحلة النزوح للجنوب قد انتهت بجميع مراراتها وآلامها، تستدرك وتقول إن الحرب لا تحمل إلا المرارة، لكن رحمة الله كانت الملاذ والنجاة في كل مرة، فقد حفظها وسترها وأخرجها من تحت كابوس الموت.

تبدأ رحلة العودة من الساعة السادسة صباحًا، تسير نور ومعها أطفال، وجدت مسنة لا تستطيع تحمل مشقة الطريق، تعصف رياح البحر بما فيه من صقعة تجمد الوجوه رغم الملابس الدافئة، تؤكد نور أن فرحة العودة وحماسها كانا كفيلين بإشعارها بالدفء في عمق قلبها.

تواصل نور مسيرها على طريق متلف بين الدمار والمنازل المهدمة. تؤكد أنه لم يكن هناك بيت واقف على مدى الطريق الذي يمتد لمسافة تزيد على 10 كيلومترات، وتصف المشهد وهو يجلب الغصة إلى القلب، لا معلم واحد قائم يساعد على الدليلة.

تلتقي الناس على الطريق ويتبادلون عبارات الحمد والسلام، وتوضح نور أنهم كانوا يسيرون وكأن قلوبهم سابقة أجسادهم من شدة العجلة والخوف من أن تنفض الهدنة قبل الوصول.

وعند وصولها، تعبّر "أبو حصيرة" عن مشهد شمال غزة بكلمات مليئة بالحزن والآلام، قائلة: "شفت الصور وما كانت أبداً مثل الواقع، الدمار كان أكبر مما نتخيل، خصوصًا في محيط بيتنا قرب مجمع الشفاء الطبي، اللي تحول إلى محيط من الخراب."

تستعيد نور تفاصيل تلك اللحظات، مضيفة: "المنظر كان بيوجع القلب، حارتنا وذكرياتنا كلها دفنت تحت الأنقاض، بيتنا كان محروقًا ومفحمًا، ما ضل فيه أي ذكرى، كل شيء ضاع."

لكنها، رغم الألم، تجد نفسها تشكر الله على العودة، وتتابع: "نحكي الحمد لله على رجوعنا، ودموعنا بتنزل بين الفرح والقهر، ما نقدر ننسى أن أغلب الناس اللي ضلوا بالمنطقة استشهدوا، فكانوا جزءًا من أبشع المجازر اللي ارتُكبت، سواء بتفجير البيوت أو حرقها والناس فيها."

وفي النهاية، تبتهج "أبو حصيرة" بعودة لم شملها مع من بقي صامدًا في الشمال: "المهم أننا رجعنا لحضن ستو وسيدو، اللي صمدوا وصبروا في الشمال، جاعوا ومع ذلك ما تركوا غزة".

40d91a54-1bfc-4b40-abbd-8c7bca288912.jpg

3683641d-98e1-423f-a252-02d8bbc46324.jpg

54d87a59-f909-4de2-8d71-e8838da21c12.jpg