في غزة، لم تنتهي الحرب بانتهاء القصف، بل أضحت ندوبها محفورة في ملامح المدينة المشوهة، لقد سرقت ملامحها وتاهت شوارعها تحت الأنقاض، وبقيت المعالم الناجية، منهكة مصابة تقتفي أثر مدينة دفنت شواهدها تحت الأنقاض.
في غمرة الموت والدمار يتجول أحمد علي (20 عاما)، بين شوارع المدينة التي عاد إلى مآذنها وأشجارها، من وسط وجنوب قطاع غزة إلى شماله في 24 يناير/ كانون الثاني فيقول لـ"وكالة سند للأنباء"، " ما عرفت غزة ولا شوارعها، الاحتلال دمر كل شيء".
ويتابع بحرقة:" " لم تعد الحياة كما كانت، ما تبقى من غزة لي ذكريات الأماكن، وأصوات الناس في ذاكرتي. هنا كانت المطاعم الشعبية على البحر، استراحة الباقة والمالديف وغيرها، كلها انمسحت".
يركض العائدون المكلومون في دهاليز الذاكرة دون توقف، فقد لاحق الاحتلال معالم المدينة بالرصاص والصواريخ والقذائف 15 شهرا في كل اتجاه، سبقها أسابيع من تهجير أهلها وحصار من تبقى منهم، حتى شوهت ملامحها صواريخ الاحتلال.
مها سالم (30 عاما)، التي تقطن وسط القطاع تروي لـ"سند"، فظاعة ما رأته عندما قررت زيارة عائلتها في مدينة غزة فتقول:" قررت أعمل لأهلي مفاجأة وأزورهم، صار معي انهيار عصبي من كمية الدمار والطريق الي ملهاش معالم".
وترُدف بأسى:" وقعت وتغرزت إيدي، ورجعت ع نصيرات، لا معالم ولا شوارع ولا بيوت ولا مطاعم ولا اي شيء.. باختصار لا حياة في غزة."
سلب الاحتلال غزة ممتلكاتها، وأنزل بها جميع صنوف الموت والإجرام، صوت غزة الجريحة صرخ طويلا وناشد كثيرا، أنقذوا أهل المدينة وأنقذوا معالمها، ولكن أسمعت لو ناديت حيا.
أما سعيد الأغواني (35 عاما)، الذي تحدثنا معه بينما كان يتجول في حي الرمال الأشهر في المدينة فيقول: "أنا في غربة، أنا لستُ أنا، ولا المدينة هي مدينتي".
ويستطرد وهو يُشير بيده إلى رسمة كبيرة على عمارة "جاد" على مفترق السرايا لرجل يحمل الصبار يقول:" لقد أصبحت هذه الرسمة من أشهر معالم المدينة المدمرة ورمزا لهم".
أما شارع الرشيد، الشارع الأبزر والمطل على بحر غزة، فقد دمر الاحتلال كل شيء فيه، وفي الأبنية من حوله، فتروي فاتن عصام (27 عاما)، ذكرياتها التي تتمنى أن تعود فتقول "كنت أندفع بحبٍ كل يوم لطريق الصباح والسيارة مسرعة على شارع الرشيد وأتنسم هواء البحر المنعش".
وتستذكر بابتسامة حزينة "لدي ذكرى في كل مكان، بين أزقتها وشوارعها وأسواقها، في كل مطعم وطريق، أمام كل مسجد وإلى جانب كل جدار".
وتكوي "فاتن" نيران الشوقِ لصيفها على الكورنيش في ليلة قمرية وأحبال الإضاءة تتدلى، وأصوات الصغار والموسيقى وضجيج المدينة يتعالى، أما عن شتائها وأكواب الذُّرة مع صديقاتي والسحلب والنسكافيه فله طعم آخر لا يشبهه شيء.
حرب أخرى تعيشها شوارع وملامح المدينة المنكوبة، اشتدت رحاها بعد انتهاء العدوان ورجعة أبنائها الذين لم يعرفوا معالم غزة، ولم يجدوا إلا الدمار وبقايا الجثث.