ما بين ميلادٍ ووفاة حياة حُفَّت بالابتلاءات وعذابات لا متناهية، بُدأت بغياهب السجون، وخُتمت بالموت بين زنازين الظلام، وما بينهما سِني حصار وعذاب وضيق لفَّ قلب الأسير الشهيد علي عاشور البطش، فلطالما كانت سجون الاحتلال الإسرائيلي مقبرة للأحياء، بدأ شبابه فيها، ثم عادت به الدنيا ليتوفى بين زنازينها.
الأسير الشهيد علي عاشور "البطش"، تحلى بصبر يطوِّق المعاناة وجَلَد أمام عنجهية السجان في المرة الأولى التي كان أسيراً فيها لدى سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، لكن المرض أكل جسده والعذاب قضى عليه في المرة الأخيرة التي اعتُقِل فيها قبل أن يرتقي مناضلاً ثابتاً على الحق والمبدأ، في 21 شباط/ فبراير الماضي.
وحاورت "وكالة سند للأنباء" السيد زكريا عاشور البطش (57 عاماً) الأخ غير الشقيق للأسير الشهيد "علي"، لكنه القريب والمُحبب إلى قلب أخيه؛ ليحدثنا عن حياة ذات أثر وذكرى لا تزول لأخيه الذي وصفه بـ"كان ضيفاً خفيفاً على الدنيا".
بين أحضان المخيم..
علي عاشور البطش (62 عاماً)، أب لـ5 من البنين والبنات، نشأ وترعرع بين أحضان مخيم جباليا منذ نعومة أظفاره، ليلتحق بدراسته الإعدادية في مدرسة "جباليا الإعدادية" للبنين، ثم درس الثانوية بمدرسة "الفالوجا"، قبل أن يلتحق بجامعة "الأمة للتعليم المفتوح"؛ لاستكمال دراسته في كلية الشرطة والعلوم القانونية، حتى أصبح ضابطاً في شرطة غزة.
عاش "البطش" وترعرع بين أحضان عائلة شمال قطاع غزة يُغدق عليهم بالعطف والحنان؛ مُسخِّراً قوته لخدمتهم، قبل أن يُصاب بجلطة في القدم وبعض المشاكل الصحية، ومع ذلك لم يُثنه المرض عن إكمال دوره كأبٍ حانٍ عطوف وأخٍ سنداً لإخوته.
ومع ذكر مخيم جباليا تتوارد إلى الأذهان كارثة حرب الإبادة الجماعية التي ألمَّت بقطاع غزة، والتي ركزت عدوانها على محافظة شمال قطاع غزة وتحديداً ذلك المخيم، لما يُشكله من شوكة في حلق "إسرائيل".
تنقَّل "البطش" رغم صعوبة وضعه الصحي، بين الخيام ومراكز إيواء النازحين، بعد أن أفقدته آلة الحرب الإسرائيلية بيته وكل ما يملك، لكن ضيق صدره وتشبثه بمخيم نشأته طار به كطير طليق ليعود إلى أحضان ركام بيته، قبل أن يلتقطه جيش الاحتلال الإسرائيلي المتمركز في المخيم كـ"فريسة" لا تُترك، في 23 ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
والأسير الشهيد "البطش" ليس حديث عهدٍ بسجون الاحتلال، فقد قضى ثلاث سنوات من شبابه في ظلمات الزنازين بعد اعتقاله في الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، بسبب انتمائه للتيارات الإسلامية، حيث كان نشاطه المناضل سبباً في اعتقاله، كذلك منعه من العمل في الداخل الفلسطيني المحتل- وفقاً لما ذكره زكريا-.
وبعد عذاب أنهك جسد المُسن "علي" استشهد بتاريخ 21 شباط/ فبراير الماضي، في مستشفى "سوروكا" في بئر السبع، تحت إطار الجرائم الممنهجة التي تُمارسها سلطات الاحتلال بحق الأسرى.
وارتقى "البطش" بعد أيام على نقله من سجن النقب إلى المستشفى، ليضاف إلى سجل الشهداء الذين ارتقوا نتيجة الجرائم الممنهجة التي تُمارسها إدارة سجون الاحتلال بشكل غير مسبوق.
مُسِنٌ عذبه الاحتلال..
يقول "زكريا" إن أخيه كان يعاني من وعكة صحية متواصلة، لكنها ليست أشد وطأة من سلب الروح خلف قبضان زنزانة مظلمة، يشتد في الحر والحرور، القتل البطيء والعذاب.
ويضعنا "زكريا" في تفاصيل الحالة الصحية لأخيه الشهيد الذي كان مريضاً يشكو من جلطات، حيث يعمد إلى لبس الشراب الطبي من أسفل قدمه إلى الساق؛ بسبب المشاكل الصحية لديه في الشرايين.
"السجن ليس نزهة إنما مقبرةٌ للأحياء، فماذا لو كان الأسيرُ مسناً ومريضاً؟"، السجن بحاجة إلى صبر يطوِّق المعاناة وجَلَد أمام عنجهية السجان، ويتوقع "زكريا" جازماً أن التحقيق -بلا شك- كان قاسياً وهو المعروف أمام ظلم الاحتلال، خاصةً أن أخيه كان مريضاً.
وكان لصفقة تبادل الأسرى "طوفان الأحرار"، وقعاً وفرحاً لا يقتصر على قلوب مَن تنسموا الحرية فحسب، بكل كانت بارقة أمل تحمل ولو خبراً صغيراً عن أرواح معلقة داخل السجون لم يُعرف كيف حالها ولا إلى أين مآلُها، تناقل أخبارُها المحررون إلى أهالي الأسرى، كمَن "رُدت إليه الحياة، أنَّ حبيبه على قيد الأمل، على قيد الحياة".
وحمل الأسرى المحررون أخبار "علي" إلى عائلته، لكنَّ وقع الفاجعة كان قاسياً عندما علمت العائلة بتدهور الحالة الصحية لسيِّد البيت وعاموده -قبل ارتقائه شهيداً-، حيث نقل أحد الأسرى "لقد تعرض علي لجلطة في القدم اليمنى، تبعتها جلطة في العين، حيث فقد بصره بنسبة 90%، وتوقفت الحركة بنسبة 100%".
أما الجسد الهزيل المُسِن، فقد كان يُضرَبُ به مثلُ صبر نبي الله أيوب على الابتلاء، فقد أُصيب "علي"، بالعديد من الأمراض الجلدية كـ"الجرب" و "الدمامل" و "التقيُّح"، إضافة إلى الجلطات المتعددة التي تمكنت من جسده؛ كذلك الاضطرابات التي كان يعاني فيها من قسوة التحقيق.
وتمنى ضيفنا أن يتنسم أخيه الحرية ويلتقي بأهله وذويه، ليساعدوه على النهوض من جديد ومعالجته، -ربما ليس علاجاً صحياً بالقدر الكافي في ظل الانهيار التام لمنظومة الصحة في قطاع غزة-، مضيفاً "لكنني أعلم أن علاج علي النفسي بتواجده بين زوجته وأحضان عائلته، سيخفف عنه جميع الآلام"، كنا ننتظر مع فقدان أمل، لكن قدر الله نافذ.
صنوف مختلفة من العذاب..
" وينقل السيد "زكريا" صورة العذاب التي ألمَّت بالشهيد "علي" في أيامه الأخيرة، كان "علي" منهكاً يتكئ على الأسرى عند قضاء حاجته، حتى وصل الأمر أن يدخل معه رفيقه في الأسر إلى دورة المياه؛ لمساعدته في تنظيف البول والغوط".
ويصف حال أخيه الذي نقله أحد الأسرى المحررين، "كانت حركته متوقفة تماماً، كذلك لسانه الذي كان ثقيلاً فلا يقوَ على الحديث، والرؤية ضعيفة"، متسائلاً "كيف سيكون حال هذا المريض داخل سجون الاحتلال أمام التعذيب والتحقيق والإهانة التي يتعرض لها، كسائر الأسرى الفلسطينيين؟"
ويتابع:" كانت إدارة سجون الاحتلال تمارس بحقه شتى صنوف العذاب، بحرمانه من العلاج أو زيارة الطبيب، بينما منعت عنه الدواء والغذاء المناسب".
"كنا نتمنى أن يخرج حياً وينعم بين عائلته وأسرته بأمن واستقرار" ما أصعبها من كلمات تخرج من قلب مكلوم ذاق مرار الفقد، ويتابع ضيفنا "لكن التقارير التي كانت تصلنا عبر السجناء الخارجين لا تُبشر بخروج "علي" من السجن وهو على قيد الحياة، بسبب انعدام الرعاية الصحية، وسوء التغذية.
وعن سؤالنا حول إمكانية تعيين محامٍ للأسير "علي" قبل استشهاده، يُجيب أخيه:" لقد تشتتنا، الحرب أنهكتنا ولم تترك لنا عقلاً كيف نتصرف"، مُضيفاً" لم يبقَ لنا شجر ولا حجر، وكُنا كل شخص منا في جهة، فلم نُدرك ما نفعل"!
وبكون "زكريا" مستشاراً قانونياً، يتابع:" غير ذلك، إن إدارة سجون الاحتلال الإسرائيلي، تمنع تعيين المحامين لأسرى غزة، بذريعة أنهم "مقاتلون غير شرعيين"، فكانت الأبواب مؤصدة من جميع الجهات.
الأب الحنون..
لا تندهش من رأفة وحنية الشهداء، فاصطفاء الشهادة لا يليق إلى بأفئدة كأفئدة الطير، كحال السيد "علي"، الذي وصفه أخيه بكل عفوية:" والله كان طيب يا الله قديش كان طيب وحنون".
وفي هذا البيت الديمقراطي الممتد، لا تجد سلطة ذكورية، بل كانت أسرة مترابطة يُحب بعضها بَعضاً وتمنح أفرادها حريةً وراحة -كما أخبرنا زكريا- الذي يستكمل حديثه حول مناقب أخيه: "علي إنسان طيب جداً، كان خلوقاً حباباً مبتسماً، باراً جداً بوالديه، ليس متسلطاً على عائلته برأي، متواضع في بنائه الذاتي، متزن في آرائه، ملتزم في صلاته ومسجده، متواصل مع محيطه الاجتماعي، وله بصمة في حب الأرض وري الأشجار.
أما "علي" فقد كان من أهل الابتلاء طيلة حياته، فهو أب لشابين و٣ فتيات، أما أحد أبنائه فقد كان من "ذوي الإعاقة"، وتكفل والده به وبزوجته وأبنائه، فكانوا بمثابة خط أحمر لديه، يعيلهم في الطعام والشراب والحياة اليومية، أما البنات الثلاث وزينة البيت، فقد كان لهنَّ النصيب الكبير في حياته من حنانه وعطفه على جميع الأصعدة.
"كان ينتظر رمضان على أحر من الجمر"..
ولطالما كان شهر رمضان المبارك المحبب إلى قلب الشهيد "البطش"، بأجوائه وروحانيته وترابطه الأسري، بِصِلة رحمه، وصلاة التراويح في مسجد الحي، فيُعيدنا "زكريا" إلى رمضان ما قبل "الأسر" لأخيه "علي"، الذي كان أبرز ما يذكره، " كنت دائماً ألتقي فيه في صلاة التراويح، أجده يجلس مبتسماً منتظراً الصلاة وبيده مصحف، ويلاطف الجيران بأحاديثه الطيبة".
ويزيد": أما زيارة الأرحام، فقد كان يحرص "علي" في زيارة أخواته أن تكون في نهار رمضان، حتى لا يُكبِّدهنَّ عناء وتكلفة الضيافة من حرصه عليهنَّ، ويُغدق عليهنَّ بما جاد الله به عليه".
كان "علي" ينتظر شهر رمضان على أحر من الجمر واصفاً الشهر بأنه "شهر الخير الوفير شهر الرحمة والكرم"، كان يسارع إلى تزيين بيته، وصلة رحمه، وتجهيز العزائم لأقاربه وأحبابه، كان طيباً خلوقاً، كما زاد أخيه في وصفه.
ذكرياتي معه لا أنساها..
" والله كان يسندني في أشد مواقفي صعوبة"، يستذكر السيد "زكريا"، أبرز ذكرياته مع أخيه، التي أصبحت أثراً لا يضمحل، وعُمقاً لا يُدفن.
وينهل لنا "زكريا" من بحار طيب روح أخيه "علي" بعضاً من الذكرى بقوله:" بعد وفاة والدنا ترك الأرض بين أيدينا، فاجتمعت العائلة من يتكفل بالأرض زراعةً ورياً واهتماماً، فوقع الاختيار على علي الذي كان سباقاً دائماً".
ويزيد" كنا دائماً نذهب صباحاً إلى أرضنا، التي تشبث بها كأحد أبنائه، كان يحب زراعتها، ويروي بكل ما طاب من أنواع الفواكه والخضروات"، مضيفاً: "وأنا أجلس أناظره وأعد له الشاي والطعام، ثم أتساءل، كيف يعولها بهذا الحماس".
كانت 3 إلى 4 ساعات يقضيها "علي" في ري الأشجار، دون أن يشعر بمرور الوقت، بينما كان أخيه يُسامره تحت ظل الشجر وفوق تراب الأرض العنيدة.
ويرثي الأخ أخيه:" مررت بدارهم شوقاً إليهم لعلّي ألمح الأحباب فيها فما من نائم في الدّار يصحو وما من زائر يدنو إليها سألت الجار: ما الأخبار قل لي؟! فقال: الدّار أبقىٰ من ذويها أمَا تعلم بأنّ النّاس تمضي وأنّ الدّار تنعي ساكنيها، " وهذا حالنا نحن، الدار تنعى ساكنيها".