في زمنٍ كانت فيه القذائف تكتب المصير، كتب قلب تامر شيئًا آخر... كتب وعدًا، لم تكن صابرين تنتظر أكثر من ضمادة تخفف وجع الجرح، لكنها وجدت يدًا تمسكها وتقول: "أنا هنا، ولن أتركك"، لم يكن البتر في حياتها نقطة نهاية، بل فاصلة أعادت ترتيب الحكاية.
حين انهار جزء من جسدها، نهضت فيها أنوثة من نوعٍ آخر، أنوثة تختبر الحب ليس بفستانٍ أبيض، بل بضمادٍ أبيض، أحبها تامر بقدم واحدة، بروح كاملة، بقدرة خارقة على جعل الحياة تنبت من حواف الألم، في زمن الحرب، لا تبدأ القصص بزغاريد، بل بنبضٍ يُكتب رغم الضجيج، وهكذا بدأت قصتهما، لا كحكاية مقاومة فقط، بل كأنشودة حبّ لم تُكتب بالحبر، بل بالدم والدمع، والصبر.
"وكالة سند للأنباء" حاورت الشابة صابرين الخيري (27 عامًا)، التي فقدت قدمها في الحرب ولم تفقد روحها، والشاب تامر ديب (27 عامًا)، الذي أحبّها كما هي، ورأى في بترها بداية لقصة لا تشبه سواها، جلسا معًا يتحدثان عن الحب الذي وُلد من بين الركام، وعن علاقة قاومت نظرات الشفقة وأسئلة الناس وأوجاع الفقد.
حين ضاقت مدينة غزة بالنار، نزح الشاب "ديب" مع عائلته نحو الجنوب، إلى مدينة خان يونس، باحثًا عن زاوية أمان وسط العاصفة، وهناك، على ذات الأرض المشتعلة بالقلق، كانت صابرين تحاول أن تبدأ من جديد، تحمل أحلامها المؤجلة وحقيبة النزوح.
اجتمع الاثنان في المكان والقدر، لم يُلغيا فكرة الزواج، بل قررا أن يمنحاها وقتًا آخر، موعدًا مؤجلًا إلى حين أن تفرج، حين تهدأ الأرض وتفتح غزة ذراعيها من جديد لاستقبال الفرح، لكن الحرب التي طالت، طالت معها انتظاراتهما، فقرر "ديب" أن يُتم الخطبة، وجرى عقد القران في 15 تموز من العام الماضي، على أمل أن يقام الزفاف في غزة، بين الأهل، وتحت ضوءٍ لا يُطفئه القصف.
ومع سريان الهدنة "الهشّة" وعودة الناس تدريجيًا إلى بيوتهم في الشمال، شعرا بأن الحياة ربما تبتسم، أخيرًا، بدأت صابرين تشتري مستلزمات الزفاف، وتنشغل بتحضيراتها كأنها تُنجز حلمًا معلّقًا منذ زمن.
"حلم طويل"..
في تلك اللحظة التي كان فيها القدر يخطو على حياتها بخطى ثقيلة، كانت نائمة، غارقة في سكون لم تعرفه من قبل، وعندما استفاقت، كانت الساعة قد اقتربت من السادسة صباحًا، وكانت تشعر بأن شيئًا غريباً يحدث، أفاقت ببطء، متسائلةً عن حالها، وكأنها تستفيق من حلمٍ طويل، "الحمد لله رب العالمين"، تمتمت في قلبها، رغم أن الألم كان يشق جسدها، والأوجاع كانت تخترق كل جزءٍ فيها.
رغم أن جراحها كانت عميقة، رغم أن أحد قدميها قد رحل، ورغم أن ظهرها قد انكسر تحت وطأة القصف، ظلت ابتسامتها تحمل شيئاً من الصمود، كانت تشعر بألمٍ لا يوصف، ولكنها كانت تشكر الله، كانت تسير في صمتٍ، تهيم في بحرٍ من الأسئلة، لكنها لم تستطع أن تفرح إلا بشيءٍ واحد: وجود عائلتها وأحبتها حولها، كانت تخاف من المستقبل، وكانت تلك اللحظات المظلمة تمر على قلبها، فيشعر قلبها وكأن حياتها قد انتهت، "ستظل حياتي هكذا إلى الأبد"، كانت تقول في نفسها، لكنها لم تكن تعرف أن وجود حبٍّ حقيقي سيغمرها ويملأ حياتها بنورٍ جديد.
"كان الجميع بجانبي"، تقول بصوت مليء بالحب والامتنان، "أشقائي، أولاد عمي، جميعهم كانوا بجانبي، وكان خطيبي تامر هو نبع القوة الذي لا ينضب، رغم كل شيء، رغم الألم والدموع، هناك شيء واحد يظل ثابتاً: حبٌ لا يموت، ودعمٌ لا يتوقف".
حين باغت القصف المدينة، كانت صابرين تغطّ في نومٍ عميق، لا تدري أن حياتها تستعدّ لانعطافة لا رجعة فيها، استهدِف منزلهم، ونُقلت في حالة حرجة من مستشفى الأردني إلى "المعمداني". وحين أفاقت بعد العملية، لم تنظر إلى جسدها، لم تفتح فمها بالسؤال، لم تصرخ، لم تسأل "لماذا؟"، كان فيها تسليم نادر، وهدوء من نوع آخر.
وتضيف "صابرين"، "ما قلت ليش راحت رجلي، وما زعلت، كنت حاسة إنو في حكمة… رغم إني ما فقدت رجلي، وظهري كمان انكسر"، كان الألم مستقرًا في جسدها، لكنها تقول إنها شعرت بوجع في الرجل التي لم تعد هناك، كما لو أن جسدها يتذكر ما فُقد منه.
وتسرد ضيفتنا: "كنت ممددة عالسرير وبحس بوجع برجلي، رغم إنها راحت، في لحظات حسيت إنو حياتي انتهت، فكرت إني رح أعيش هيك طول عمري."
لكن حياتها لم تنتهِ، حول سريرها تكاثف الحب: "عيلتي كلها كانت جنبي، ما حدا قصر، إخواتي، أولاد عمي، الكل حواليا، وتامر كان دايمًا حدا ماسك إيدي، ما حسّيت بالوحدة ولو للحظة."
"لم ترد على المكالمة"..
في لحظةٍ مليئة بالقلق والترقب، كانت المكالمة التي لم ترد عليها صابرين هي ما دفعه للشك بشيء غير عادي يحدث، أكثر من عشرة مكالمات هاتفية في اليوم نفسه دون رد، شيء لم يحدث من قبل، "في تلك اللحظة، أحسست أن هناك شيء غير طبيعي"، قالها خطيبها تامر ديب بصوت منخفض وهو يسترجع ذلك اليوم، في الحال، أخبره ابن عمها أن البيت قد تعرض للقصف، "لبست ملابسي بسرعة، جريت في الشوارع وأنا في قمة الهلع"، وأشار إلى أن الشوارع كانت خالية تمامًا إلا من سيارة إسعاف كانت تسير خلفه.
السماء المملوءة بالطائرات، لم يكن يرى "تامر" إلا صورة صابرين في ذهنه، يتمنى أن يجدها بخير، وصل إلى مستشفى المعمداني في الساعة الثانية والربع صباحًا، فوجد أن صابرين ليست هناك، لكن، وبعد دقائق، جاءه الخبر المطمئن من رام بأنها كانت في مستشفى آخر، "كانت بخير"، فركض ليصل إلى مستشفى الأردني، "كنت أبكي وأنا في الطريق"، ولم يكن يصدق حجم الخراب الذي رآه عند مروره بجانب منزل صابرين المدمر.
ويزيد: "لما وصلت للمشفى الأردني، كنت أمشي وقلبي مش بإيدي، ما كنت عارف شو أستنى، بس كنت أتمسك بأمل صغير إنها بخير، أول ما وصلت، قالولي إنها جوّا غرفة العمليات، عرفت وقتها إنو الوضع مش بسيط."
يصمت للحظة، كأن الخبر لا يزال يتردد في أذنه: "قالوا إنها وقعت على الأرض بعد ما ضرب القصف بكل قوة، وإن العمود الفقري انكسر، ورجلها اليمنى تهشّمت من الشظايا، والدكاترة بيحاولوا ينقذوا حياتها، بس ما قدروا يخلّوا رجلها، كان لازم تُبتر."
يتنفس بعمق، كأن الكلام يثقل عليه: "ما قدرت أستوعب، صابرين اللي كانت قبل كم يوم تمشي جنبي وتضحك، فجأة بيني وبينها غرفة عمليات، وجروح ما بتنشاف كلها بالعين."
ويستطرد تامر: "عندما خرجت من غرفة العمليات، أول ما قلته لها كان "أنا جنبك، مش هتخلي عنك"، رغم الألم، رغم الجروح، كانت هي تسأل عن حالي، وقالت لي: "بطل رجلي"، في حين كان لا يزال أثر التخدير واضحًا عليها.
مرت الأيام، ومع كل يوم كانت آلام صابرين تزداد، لكنها لم تفقد الأمل، ولم يفقد هو الأمل في أن كل شيء سيعود كما كان، "المستقبل مليء بالحب"، هكذا كان يتمنى لها دائمًا، وكان مصممًا على أن يعيد حياتهما كما كانت، رغم كل شيء، رحلتهما في العلاج كانت صعبة، "لكننا مستمرون، ورحلة العلاج ستنتهي بشفاء صابرين"، قالها بثقة.
يسترجع تامر ما في ذاكرته من تفاصيل "كانت صابرين تروح السوق شبه يومي، وأنا معها أغلب المرات، كانت فرحتها تكبر مع كل قطعة تشتريها، وكل تفصيل صغير كأنها بترسم حياتنا القادمة."
ويوضح "كان موعد الزفاف محددًا، بعد عيد الفطر بأسبوع واحد فقط، وبيت الزوجية، ذاك الذي بنياه معًا بحب وصبر، كان يقترب من اكتماله".
لكن ليلة الثامن عشر من آذار، كانت مختلفة، انقضّت الطائرات، خالفت التهدئة، وقصفت الحلم كما تقصف البيوت، استيقظ الديب مذعورًا على أصوات الانفجارات، وكعادته، أمسك هاتفه ليتصل بصابرين، ليوقظها كما يفعل كل يوم.
يقول تامر: "بالنسبة لما جرى، لم يتغير شيء في علاقته مع صابرين، "علاقتنا لم تتأثر، ولن تتأثر، كانت قوية قبل الإصابة، وستظل كذلك بعد الإصابة"، وأكد أن قرار البقاء بجانبها كان "قرارًا راسخًا" لم يتردد فيه أبدًا".
وحين سألناه عمّا تركته هذه التجربة القاسية في نفسه، أجابنا بصوت يشبه من مشى على الرماد حافيًا: "تعلمت من صابرين أن الصبر هو مفتاح الفرج، تعلمت منها الوفاء والإيمان بأن الحب أقوى من أي ألم"، وأكد أن هذه التجربة جعلته أكثر تمسكًا بحبه لها، وأنه سيظل معها إلى الأبد.