لم تتوانى "إسرائيل" في استخدام أي نوع من الأسلحة بمختلف أنواعها وأحجامها في حربها المسعورة على غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، باعتبار القطاع مختبرًا لحرب تكنولوجية، وسكانه بمثابة "حقل" لتجاربها.
وفي الآونة الأخيرة، ومنذ استئناف حرب الإبادة على غزة في 18 مارس/ أذار الماضي، لوحظ استخدام جيش الاحتلال، لوسيلة إضافية يضمن فيها قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، ولم يستخدمها خلال طوال أشهر الحرب التي سبقت توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مطلع العام الجاري.
إنها الطائرات الانتحارية، التي حملت هذه المرة توجيها لمهمات قتل جديدة في غزة، فقد شهد منتصف أبريل/ نيسان الجاري وما بعده تصعيداً ملحوظاً في استخدامها لاستهداف المدنيين في الخيام والمقاهي والتجمعات، إذ تم تسجيل انفجار ما لا يقل عن 10 طائرات مسيرة في مناطق مختلفة بالقطاع خلال أسبوعين في الفترة المذكورة.
وتطرقت وسائل إعلام إسرائيلية، إلى استخدام جيش الاحتلال خلال عمليات الاغتيال الأخيرة في قطاع غزة، للطائرات الانتحارية "سكاي سترايكر"، وهو سلاح من إنتاج شركة "إلبيت" الإسرائيلية.
استخدام جديد.. ما أهدافه؟
يقول الباحث المختص بالشأن العسكري رامي أبو زبيدة، إن الوضع الميداني الجاري يشير إلى أن هناك كثافة في استخدام الطائرات المسيرة الانتحارية، واستهداف واسع للمدنيين في الخيام والمقاهي بعيداً عمَّا كانت تُستخدم فيه سابقاً من عمليات اغتيال محددة.
ويوضح "أبو زبيدة" في حديثه لـ"وكالة سند للأنباء"، أن النمط الحالي يشير إلى تحول إسرائيلي نحو استخدام هذه الطائرات بشكل أكثر انتشاراً وتنوعاً في بيئة مكتظة بالسكان، معتبراً ذلك تصعيدًا جديدًا وتغيّرًا في تكتيكات الاستخدام مقارنة بالعمليات السابقة.
ويشير "أبو زبيدة" لوجود أسباب عسكرية محتملة وراء الاستخدام العشوائي الموسع من الطائرات الانتحارية، باعتبار أن غزة منطقة ذات كثافة سكانية عالية، ومنطقة معقدة، ما يجعل المُسيَّرات أداة توفر للاحتلال قدرة على المراقبة والملاحقة في هذه البيئة، والوصول لأهداف قد يكون من الصعب الوصول إليها بالوسائل التقليدية.
ويضرب ضيفنا مثلاً استخدام المُسيَّرة "ماعوز" الانتحارية والتي تحمل رأساً حربياً بوزن يقارب 350 غرام، وهي مصممة للقتال في المدن، بالإضافة إلى استخدام أنواع أخرى لأهداف الرصد والاستهداف.
ويلفت النظر إلى أن استخدام الطائرات غير المأهولة تقلل تعرض الجنود الإسرائيليين للخطر في الاشتباكات المباشرة، خاصة في حرب المدن.
بينما يهدف الاستخدام الواسع للمُسيَّرات الانتحارية ضد المدنيين، إلى زيادة الضغط على سكان غزة ودفعهم للنزوح والانتقال أو إثارة السخط ضد المقاومة الفلسطينية.
وعلى صعيدٍ آخر، تستخدم "إسرائيل" قطاع غزة كبيئة اختبار وتطوير لأسلحتها، مُبيناً أن الكثير من التحليلات تشير لاستخدام الاحتلال قطاع غزة كميدان اختبار أسلحته والتقنيات الجديدة، بما فيها المسيرات قبل تسويقها دولياً، وفقاً لما أورده "أبو زبيدة".
تبعات وخيمة..
أما تبعات ذلك فهي "وخيمة" على عدة مستويات، وعلى رأسها الإنسانية، إذ يرى "أبو زبيدة" الاستخدام الواسع للطائرات الانتحارية ضد أهداف مدنية، يؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين بما فيهم النساء والأطفال بسبب استهداف تجمعات ومناطق سكنهم.
ويتابع: "هذا الاستهداف يؤدي إلى مزيد من النزوح وتفاقم الأزمة الإنسانية نتيجة تدمير المآوي والبنية التحتية، ويترتب عليه كذلك تأثيرات نفسية طويلة الأمد خاصة لدى الأطفال؛ بسبب حالة الخوف وانعدام الأمن الدائم".
ومن جانب قانوني، يؤكد "أبو زبيدة" أن هذا الاستخدام يثير تساؤلات جدية حول مدى امتثال الاحتلال للقانون الإنساني والدولي، وخاصة مبادئ التمييز والتناسب في استخدام الوسائل القتالية؛ لأنها تستخدم أسلحة وتستهدف مدنيين عزل وليست هناك حرب متكافئة ولا مقاتلين للاستهداف.
أما التبعات العسكرية والتكتيكية، فبينما توفر هذه المُسيرات مزايا تكتيكية في حرب المدن، إلا أن استخدامها غير المقيد من الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين يؤدي إلى تقويض أي جهود مستقبلية لإعادة الاستقرار، ما يساهم في رفع الضغط على المقاومة ومطالبتها بالرد على الاحتلال.
ويُفسِّر ضيفنا "عسكرياً" استخدام "إسرائيل" هذا النوع من الطائرات، لتوفير ما يُعرف بـ "الدعم الناري" الفوري والدقيق للوحدات البرية المتقدمة في المناطق السكنية، بينما يوفر مراقبة جوية مستمرة للمناطق المستهدفة وتحديد الأهداف والفرص – من وجهة نظر الاحتلال-.
وينبَّه إلى أن الاستخدام المبالغ فيه للمسيرات الانتحارية ضد تجمعات مدنية، يتجاوز التفسيرات العسكرية التقليدية لاستهداف المقاومين، باعتبار أنه لا توجد معركة حقيقية في قطاع غزة، وأن "إسرائيل" تقاتل البشر والمدنيين، دون وجود بنية تحتية عسكرية واضحة.
ويُعقِّب "أبو زبيدة" على ذلك، بأنه يثير مخاوف جدية وواضحة بشأن الانتهاكات المستمرة للقانون الدولي والإنساني، وعدم امتثال "إسرائيل" للقوانين الدولية.
تخويف وترويع.. قتل لهدف القتل
من جانبه يرى مدير مركز رؤية للتنمية السياسية أحمد عطاونة أن استخدام الطائرات بدون طيار بكثافة في الاغتيالات واستهداف المدنيين والخيام، يعطي انطباعًا بأن الحرب في غزة ليست عسكرية تقليدية، وليست بين جيوش أو جبهات، إنما هي إبادة جماعية من جيش مدجج بالسلاح ضد مدنيين عُزَّل ومقاومة محدودة الإمكانات العسكرية.
ويقول عطاونة، في تصريح خاص بـ "وكالة سند للأنباء"، أن هذا الاستخدام "يأتي ليلحق أكبر أذىً ممكن بالمدنيين في إطار حرب الإبادة أولاً، والردع والإرهاب والتخويف ثانياً، وبالتالي الأهداف منها سياسية أكثر منها عسكرية".
وعن خطورة استخدام الطائرات الانتحارية، يقول "عطاونة"، إنها صغيرة الحجم وتأتي بدون سابق إنذار، كما يُستخدم فيها الذكاء الاصطناعي، فتتحرك استناداً إلى بصمة الوجه أو بصمة الصوت أو استخدام الأجهزة الذكية، ما يجعل قدرتها على الوصول إلى الأهداف المحددة عالية وأكثر دقة.
ويؤكد أنها تشكل خطراً حقيقياً على حياة المدنيين الذين يعيشون في مخيمات، وليس في معسكرات جيش أو ثكنات عسكرية، ومن الصعب تجنبها أو تفاديها من قِبل المدنيين.
ويشدد ضيفنا أنها أداة من أدوات الإبادة الجماعية، والقتل والاغتيال غير الشرعي التي تستهدف المدنيين في خيامهم، وأداة لإرهاب الفلسطينيين، وإفقادهم الشعور بالأمن في أي مكان حتى لو فيما تدعي "إسرائيل" أنها مناطق "إنسانية آمنة".
ويرى أن "إسرائيل" تحاول – من خلالها- تسجيل إنجازات عسكرية باعتبار أنه ما زال لديهم القدرة على القتل والاغتيال، كذلك زيادة أعداد الشهداء والمصابين.
وفي حرب الإبادة الجماعية يعتقد ضيفنا أن الأعداد فيها مهمة؛ لأن "القتل يكون لهدف القتل وليس لإنجاز أهداف عسكرية، ولأن "إسرائيل" تريد قتل أكبر عدد من الناس، وإنجاز أهداف معنوية وسياسية، والضغط على المجتمع وبالتالي الضغط على قادة المقاومة لتحقيق تنازلات".