بجسد أثقله وجع الفراق، ترقد السيدة أسماء أبو الهيجا (61 عامًا) منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، على سرير الشفاء بالمستشفى الاستشاري في رام الله، يضمد الأطباء جراحًا في جسدها، لكن جرحها الغائر في قلبها ينتظر البشرى بعودة زوجها وأبنائها الأسرى لأحضانها بعد طول غياب فتشفى كل آلامها.
وقبل أيام، خرجت السيدة أسماء "أم عبد السلام" من غرفة العمليات، تنادي وهي تحت تأثير البنج والمهدئات على زوجها وأبنائها الأسرى وابنها الشهيد حمزة، تسأل من حولها ويجيبوها: "أبو العبد وينه؟ بالسجن يا خالتي عند اليهود، وين عبد السلام؟ بالسجن يا خالتي عند اليهود، وين عاصم؟ بالسجن عند اليهود، وين عماد طيّب؟ بالسجن يا خالتي عند السلطة".
وتنادي على حمزة الشهيد وتسأل: "وين حمزة طيّب؟" فكان الجواب الأصعب: "حمزة استشهد من 11 سنة"، فتصرخ وكأنها لحظة الفاجعة الأولى: "حمزة استشهد؟ ليش ما خبرتوني؟".
أسئلة رددتها الأم وهي ليست بوعيها الكامل، لكن قلبها الذي يعيي تمامًا معنى الفراق والحاجة للزوج والأبناء في تلك اللحظات هو من كان يسأل، تبحث بين وجوه الحاضرين حولها عن 4 من فلذات كبدها، حمزة رحل شهيدًا باشتباك مسلح مع قوات الاحتلال في مارس/ آذار 2014، بينما تقاسمت سجون الاحتلال والسلطة اعتقال أبنائها الآخرين عبد السلام وعاصم وعماد.
كما لم تسلم "أم عبد السلام" من الاعتقال، حيث اعتقلها الاحتلال عام 2003 لمدة 9 شهور، بينما اعتقلت ابنتها المحامية بنان لمدة شهر، لتسجل العائلة بكاملها تاريخًا من الصمود والصبر.
غياب الأحبّة..
بجوار أمها على سرير المستشفى، تجلس بنان مرافقة لها في رحلة علاجها الممتدة منذ شهور، حيت أجريت لها عملية لزراعة الجلد في رأسها، بعد انتكاسات صحية ألمت بها عقب استئصال ورم "حميد".
وتحدثنا بنان: "أخي عبد السلام معتقل لدى الاحتلال منذ 3 سنوات ونصف، وعاصم منذ سنة في سجون الاحتلال، أما أخي عماد فهو معتقل في سجون السلطة بنابلس".
ولا يعلم أشقاء بنان حال أمهم، فهم كبقية الأسرى في سجون الاحتلال، معزولون عن العالم الخارجي، لا تصلهم سوى أخبار شحيحة، وبعضها غير دقيق كما تقول.
وتردف: "علمنا مؤخرًا أن خبرًا خاطئًا وصل لأبي في سجنه، يفيد باستشهاد أخي رفقة عدد من أصدقائه في قصف إسرائيلي، ونحن ننتظر من ذلك الوقت السماح للمحامي بزيارته لطمأنته ونفي الخبر له".
وعن حال أمها تخبرنا: "هي الان تتماثل للشفاء بعد إجراء عدة عمليات لها لزراعة الجلد في رأسها، ولا نعلم إلى متى ستبقى بالمستشفى، فعمليتها كان خطيرة وحساسة جدًا، وهي بحاجة لمتابعة وإشراف طبي متواصل".
تهجير يزيد القلب لوعة..
لم تقف معاناة عائلة أبو الهيجا على غياب الأب والأبناء ومرض الأم، ليمتد ذلك الوجه لتهجيرهم من منزلهم في مخيم جنين، جراء العدوان العسكري الإسرائيلي المتواصل منذ شهور.
وعن ذلك تقول بنان: "خرجت أمي من البيت على مضض، لم يكن لدينا خيار سوى أن تخرج أمي المريضة من البيت خشية عليها من اقتحام الاحتلال للمنزل أو يطولها الأذى وهي بوضع صحي لا يحتمل".
وتكمل: "منزلنا يقع في حارة ساحة المخيم، وهي المنطقة الأشد خطرًا والتي لا أحد يعلم ما حال المنازل فيها أبدًا، فنحن حتى الآن لا نعلم ماذا حصل للمنزل هل تم هدمه أو ما زال قائمًا".
وخلال وجودها بالمستشفى برام الله، تفاجأت "أم عبد السلام" بقدوم جارات بالمخيم لزيارتها، ما كان للأمر وقع كبير على قلبها، فأنعشتها وكأنها زارت المخيم وعادت للجلوس مع جاراتها.
وتصف بنان فرحة أمها برؤية جارات المخيم: "رُدَّت الروح لأمي عندما هبّت عليها نسمات المخيم في المستشفى، فاضت دموعها شوقًا، فزيارة بنات المخيم وأخوة لنا من من هناك لوالدتي أعادت لها الحياة".
وتمضي بالقول: "رغم مافرّقه الاحتلال وشتت عائلات بتهجيرهم من مخيم جنين، إلا أن بنات وشباب المخيم يبقون العائلة الحنونة والسند القوي الذي لايميل، فما يميز هذه العائلة، أن الاحتلال مهما حاول أن يفرقها سيبقون يشدون بعضهم بعضا وسنبقى العائلة المتينة". داعية: "نسأل الله تعالى أن يعيدنا إلى مخيمنا في القريب العاجل".
يقين بالفرج وأمل بلم الشمل..
ورغم أن عائلة الأسير أبو الهيجا لم تجتمع تحت سقف واحد منذ عام 2002 عقب اعتقاله واعتقال أبنائه وزوجته وابنته فيما بعد، إلا أن يقين العائلة بفرج الله لا ينقطع.
وتسرد بنان: "مررنا طيلة سنوات عمرنا منذ صغرنا بمحن كثيرة وصبرنا وخرجنا منها أقوى وكانت لها الفضل بصقل شخصياتنا وتعويدنا على تحمل المسؤولية والثبات، ويقينا بالله سنخرج من رزمة هذه المحن الأقسى، مرض والدتي وظروف اعتقال والدي وإخوتي وأسرانا، والموت البطيء من جوع وقهر واختطاف".
وتكمل: "يقينا بالله سنجبر، ونتجاوز المحنة ونخرج منها رغم قساوتها أقوى وأصلب وأثبت، أمي ستشفى، ووالدي وإخوتي سيخرجون ويلتم الشمل بإذن الواحد الأحد، نحن لله ومع الله وبإذنه سينصرنا".