حين تنطفئ كل سبل الحياة في غزة، تُشعل الحرب أشياء ظنّ الناس أنهم ودّعوها إلى الأبد، يعود "البابور" – ذاك الموقد المعدنيّ العتيق – لا كذكرى من زمن الأمهات، بل كأداة يومية في مطابخ محاصرة بالنار والعتمة.
في زمنٍ فُقد فيه الغاز، وغابت الكهرباء، وصار الحطب سلعة نادرة، صار البابور وسيلةً لا بديل عنها، لكن الأمر لا يقتصر على مجرد الطهي، فالبابور اليوم هو جزء من معاناة يومية، أمهات يصبرن على دخان النار لتوفير لقمة، وأطفال يجلسون حول اللهب رغم ما يسببه لهم من تعب، فقط ليتمكنوا من تناول وجبة تكفيهم.
ومع استمرار الحصار الإسرائيلي ومنع دخول غاز الطهي، اضطرّ أهالي غزة للعودة إلى استخدام أدوات تقليدية وبسيطة لطهي الطعام، من جمع الحطب من بين أنقاض المدينة، مرورًا باستخدام المواقد القديمة مثل "الكانون"، وانتهاءً بالبابور الذي كان يُعتبر من زمن بعيد من الماضي.
في هذا التقرير، تصغي "وكالة سند للأنباء"، إلى ما تقوله النساء من خلف شعلة البابور، وترصد كيف تحوّل هذا الموقد البسيط إلى مركز يوميّ لحياة كاملة، تحاول أن تصمد في وجه الانقطاع، وتقاوم الرماد بالحياة.
"صوت البابور المزعج"..
تعود ختام عبد الرحمن، من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، إلى استخدام "البابور" كما لو أنها تعود عقودًا إلى الوراء، تقول: "لم أكن أتخيل أنني سأضطر يومًا للعودة لهذا الشيء الذي كنت أظنه جزءًا من زمنٍ مضى، لا يمكن أن يعود إلا في الحكايات".
وتبدأ ضيفتنا باستخدام البابور مجددًا بعد استئناف الحرب في 18 مارس/آذار الماضي، في ظل انقطاع غاز الطهي، وارتفاع أسعار الحطب النادر أصلًا.
وتستصلح ختام بابورًا قديمًا ورثته عن حماتها الراحلة، تقول: "كنت أستخدمه في سنوات زواجي الأولى، في السبعينات، وها أنا أعود إليه اليوم، لإعداد الطعام، وتسخين المياه، وتحضير المشروبات، وأستخدمه في كل شيء تقريبًا".
وتلجأ ضيفتنا إلى السولار المصنّع من مخلفات بلاستيكية كوقود بديل، موضحةً أن سعر اللتر يصل إلى 35 شيقلًا، بسبب عدم توفر الكاز.
وتضيف: "صحيح أن البابور ليس أوفر من الحطب، لكنه أكثر راحة، لا يوجد دخان، ولا فوضى النار، ولا تعب تنظيف، رغم أن رائحة السولار كريهة وصوت البابور مزعج".
تتشارك ختام مع أبنائها في تشغيل البابور، وتجد في ذلك ما يُخفف العبء النفسي والجسدي عنهم، وتشير إلى أهمية التعاضد العائلي في ظل الظروف القاسية التي فرضتها الحرب، وتقول: "نعيش ضغطًا لا يُطاق، والتعاون هو الطريقة الوحيدة للبقاء".
تشكو من صعوبة الصيانة وارتفاع تكلفتها عند تعطل البابور، وتوضح أن أي عطل بسيط يتطلب إصلاحه تكلفة لا تقل عن 25 شيقلًا، وهو مبلغ ليس سهلًا في ظل الظروف الاقتصادية الخانقة.
وتعتبر ختام أن التعامل مع البابور ليس سهلًا للجميع: "الشخص الذي لم يسبق له استخدامه، سيجد المهمة شاقة ومعقدة، لكن تجربتي القديمة ساعدتني على التكيّف معه بسهولة… البابور أهون عليّ من بهدلة النار والدخان".
"صوت الجوع أقسى"..
وفي مشهد يكاد يتكرر في كل بيت، تحكي لنا أم رياض جرادة من منطقة حي الدرج بغزة: "منذ عشرات السنين لم أرَ بابور كاز مشتعلًا في بيتي، لكن الحرب خلطت كل المفاهيم، وصرنا نبحث عن أي وسيلة للطبخ، أي وسيلة للحياة".
وتبدأ بالبحث عن بابور في الأسواق الشعبية، وتدفع أكثر من 100 شيقل لشراء واحد مستعمل، توضح: "أغلب البوابير اختفت من السوق، أو صارت بأسعار خيالية، اشتريت واحدًا متعبًا، لكن قلت هذا أفضل من لا شيء".
تستخدم السولار البديل بدلًا من الكاز، رغم الروائح الخانقة والخطر الكامن في كل شعلة، تشير إلى أن الكاز غير متوفر إلا بأسعار لا تطاق، معبرةً: "رائحة السولار تخنقنا، لكن ما باليد حيلة، على الأقل نقدر نطبخ شوية عدس أو نغلي شاي".
وتُجهّز "جرادة"، الطعام لأولادها على إيقاع صوت البابور العالي، وتجد في ذلك شكلًا جديدًا من أشكال المقاومة، تقول: "أنا أم، وواجبي أطعم أولادي، وإذا كان صوت البابور مزعج، فصوت الجوع أقسى، وصوت الطائرات أبشع".
وتخاف من تسرب الوقود أو احتراق البيت، لكنها تستمر بالحذر، مُبيّنةً: "كل مرة بشغل فيها البابور بكون قلبي واقف، بخاف من نار أو انفجار، بس بحاول أكون منتبهة، بحط سطل مي جنب البابور احتياط".
وتشرح "جرادة" كيف أصبحت الطهي مهمة جماعية تشارك فيها بناتها، تقول: "واحدة بتغسل العدس، واحدة بتراقب الشعلة، وواحدة بتحضّر الطنجرة، حتى وقت الأكل صار له قيمة أكبر، لأنه صار صعبًا نحصل عليه".
تُعبّر عن حنينها لزمن الغاز والكهرباء والمطبخ العادي، "زمان كنا نتذمر من ضعف الغاز، اليوم مستعدين ندفع الغالي لنرجع نطبخ على فرن آمن ونعيش طبيعي، بس وين الطبيعي؟ كل شي في غزة صار استثنائي وغريب".
"بديل آخر"..
ولا يقتصر الاعتماد على البابور فقط، إذ تلجأ بعض العائلات لاستخدام "الكانون" كوسيلة بديلة للطبخ، رغم ما يرافقه من مشاق صحية وبيئية.
تستعيد هدى فايز امرأة تعاني من مرض السكري المزمن، مشهد الكانون في الذاكرة، لكن هذه المرة ليس للتدفئة واللمة الشتوية، بل للطبخ القسري في زمن الحرب.
تقول: "ما أجمل الكانون قديمًا، لما كنا نلتف حوله في الشتا، نحمي إيدينا، نشرب شاي، ونأكل خبز مشوي. بس اليوم راح البال، وصار الكانون سبب للتعب والمرض".
وتشرح كيفية استخدام الكانون، فتضع الحطب أو القش في قاعدته، وتشعل النار، وتستخدم شبكة أو "منصب" لوضع القدر فوقها بثبات.
تقول: "الكانون موقد بأربعة أرجل، أكبر من البابور، وبيتحمل أكتر من طنجرة بنفس الوقت، فبنوفر وقت وحطب".
وتشير إلى المفارقة في أن أدوات النار، رغم فاعليتها، تسبب أضرارًا صحية متعددة، خاصةً مع معاناتها من السكري وتأثيره على عيونها، "أنا مريضة سكري مزمن، والسكري بطبيعة الحال يأثر على العيون، فكيف لما يكون في نار ودخنة طول الوقت؟".
وتؤكد "هدى" أن الدخان والتلوث والرماد يجلبون حساسية وذبحات صدرية، ويتركون رائحة مزعجة في الطعام والملابس، في ظل نقص الماء ومسحوق الغسيل.
تقول: "ريح الدخان تعلق في الأكل وفي الملابس، وهل في مي ولا صابون عشان نغسل؟ أزمة فوق أزمة".
وتعترف بأنها أحيانًا تجد متعة مؤقتة في الطهي، لكنها سرعان ما تصطدم بالأذى الصحي الناتج عن الاستمرار فيه، تقول: "بحب الطبيخ، وبحس إني برجع لشيء من روحي، بس الدخان بيخنقني، وبيخليني أندم بعد كل وجبة".