بينما يخلد العالم للنوم آمنًا، تتأهب غزة كل مساء لمواجهة رعب جديد.
في هذا الركن المحاصر من الأرض، يتحوّل الليل من فسحة للراحة إلى كابوس يومي، فيه تسهر الأمهات على وجع أطفالهن، وتضيق البيوت بما تحمله من خوف ودموع.
ففي غزة، بات كل غروبٍ إعلانًا مبكرًا للفقد، وكل صوتٍ في الظلام صفارة إنذار في أذن القلب، فمنذ استئناف العدوان الإسرائيلي على غزة، لم يعد الليل وقتًا للراحة، بل صار موعدًا يوميًا مع الرعب.
ومع انقطاع الكهرباء وإغلاق الملاجئ، تتحول البيوت إلى مصائد، وتُترك العائلات لمصير مجهول، تتوسل النجاة بالدعاء وتحتمي بالأمل.
في هذا التقرير تنقل مراسلة "وكالة سند للأنباء" صرخات مكتومة وأمنيات صغيرة لأطفال لا يريدون سوى أن يعيشوا ليلة واحدة بلا خوف في غزة.
أصوات من قلب الظلام
أم ناصر (38 عامًا)، من حي الشجاعية، أم لخمسة أطفال، تقول: "لا ننام.. نلتحف الظلام ونحتضن أطفالنا وننتظر، حين نسمع صوت طائرة، أشعر وكأن أحدًا يضغط على قلبي".
تحتضن طفلها وتكمل حديثها لـ "وكالة سند للأنباء": "ابني الصغير، يحيى، توقف عن الكلام. يلتصق بي ويبكي بصمت كلما بدأت الغارات. أحيانًا أتمنى أن ينتهي كل شيء دفعة واحدة، لأن انتظار الموت أصعب من الموت ذاته".
فاطمة نافز (31 عامًا)، من مخيم الشاطئ غرب غزة، أم لأربعة أطفال، تحكي لنا: "حين يحلّ المساء، يبدأ قلبي بالانقباض. أخشى أن تستهدفنا الطائرات التي تحوم على مسافات منخفضة. أحاول التماسك أمام أطفالي، لكن في كثير من الليالي لا أتمكن سوى من احتضانهم والدعاء أن نموت معًا أو ننجو سويًا".
"بعد قصف عنيف استهدف حيّنا، حملتُ أطفالي وهربتُ إلى منزل أهل زوجي. الخوف بات مضاعفًا، وأصبحنا نترجى أن تكون كل الأيام نهارًا، فليل الحرب لا يُحتمل".
ولأن الأطفال يتقاسمون الخوف والرعب كما الكبار، تُحدّثنا سارة (10 سنوات): "كنت أحب الليل.. أحب القمر، الآن لا أريده، أخاف أن ننام ولا نستيقظ، أبقى مستيقظة لأحرس إخوتي، حتى وإن نام أبي".
وببراءة وخيال الأطفال تردد: "أريد أن أكون عصفورة، أهرب من غزة إلى مكان هادئ".
وتكمل: "لا أستطيع النوم. أعدّ الطائرات من نافذتي. أحيانًا أنام على صوت انفجار، وأستيقظ ولا أعرف إن كان بيتنا ما زال واقفًا أم لا".
الرعب الليلي… جرحٌ نفسي يتسع
يدق المختصون ناقوس الخطر، محذرين من أزمة نفسية متفاقمة في القطاع، فيما يرى مختصون أن الرعب الليلي هو الأخطر نفسيًا؛ فالطفل في غزة يفقد الأمان مرتين: أولًا لأنه محاصر، وثانيًا لأنه لا يرى الخطر بل يسمعه ويتخيله، ما يزيد من حدة الصدمة".
وتحدث مختصون عن حالات تبول لا إرادي، نوبات هلع، صمت مفاجئ، أو عدوانية غير مبررة، فيما النساء يتحملن عبء القلق والصدمة، وهن في أمسّ الحاجة للدعم".
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يعاني نحو 20% من سكان القطاع من اضطرابات نفسية تتطلب تدخلًا متخصصًا، وهي نسبة تعادل ضعف المعدل العالمي، ما يبرز الحاجة الماسة إلى تعزيز المبادرات النفسية في المنطقة.
كما تُقدّر أعداد المصابين بأمراض نفسية بنحو 120 ألف شخص، بالإضافة إلى 85 ألفًا يعانون من إعاقات مختلفة، مما يفرض ضغوطًا كبيرة على النظام الصحي المُنهك أصلًا.
وفيما يتعلق بالأطفال، وهم من الفئات الأكثر تضررًا نفسيًا، أفادت منظمة اليونيسف بأن واحدًا من كل ثلاثة أطفال في غزة يحتاج إلى دعم نفسي عاجل لمواجهة آثار العنف والخوف والصدمات المتكررة.
أما على صعيد البنية التحتية، فتواجه المبادرات النفسية تحديات جسيمة، إذ لا يوجد سوى مستشفى حكومي واحد مخصص للصحة النفسية، إلى جانب عدد محدود من العيادات التي تفتقر للإمكانات وتكتفي غالبًا بالعلاج الدوائي.
ليل غزة… أكثر من مجرد ظلام
إن ليل غزة ليس كأيّ ليل. هناك، تُطفأ الأنوار قسرًا، لا لأن الناس يريدون النوم، بل لأن الغارات لا تترك لهم خيارًا. لا يمكن لأم أن تَعِد طفلها أن الغد سيكون أجمل، لأنها لا تدري إن كان سيأتي غدٌ أصلًا.
في غزة، لا يهرب الناس من الليل، بل يحاولون النجاة منه. حين يصمت العالم.. تصرخ القلوب في الظلام.
وفي الحروب، لا يكون الموت دائمًا نتيجة الشظايا أو الأنقاض. حيث وثّقت الطواقم الطبية في غزة حالات لأطفال استُشهدوا بسبب الخوف الشديد، دون أن تُلامسهم القذائف. توقّفت قلوبهم الصغيرة وهم يستمعون لصوت الانفجارات، أو وهم يركضون فزعين بلا مأوى يحميهم.
وتشير تقارير وزارة الصحة في غزة والمنظمات الطبية إلى أن بعض الأطفال وغيرهم من الكبار أيضًا، وصلوا إلى المستشفيات وقد فارقوا الحياة نتيجة سكتات قلبية مفاجئة ناجمة عن الصدمة والرعب. أطفال لم تُمنح لهم فرصة الفهم أو الهرب، فقط كانت دقات قلوبهم أضعف من احتمال ليلة حرب.
ففي هذه البقعة المحاصرة، لا يموت الأطفال لأنهم كانوا في مكان خاطئ، بل لأن العالم كله تركهم بلا حماية، بلا دواء، وبلا حقٍّ في الأمان.