مع تواصل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة منذ أكثر من عام ونصف، تتكشّف ملامح خطة "مساعدات إنسانية" جديدة يجري تنفيذها على الأرض، تتجاوز منظومة الأمم المتحدة وتُسوَّق كأنها مبادرة محايدة ومستقلة.
غير أن تحقيقاً أجرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية يكشف أن هذه الخطة، التي يُروَّج لها كمنقذ لسكان غزة، هي في واقع الأمر مشروع إسرائيلي خالص، تمت بلورته في تل أبيب، ويُدار اليوم من قبل جهات أمنية وتجارية ذات ارتباط مباشر بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
خطة إسرائيلية في ثوب أميركي
بدأت ملامح المشروع تتشكل في أواخر 2023 داخل اجتماعات مغلقة عقدها "منتدى مكفيه يسرائيل" الذي يضم مسؤولين أمنيين ورجال أعمال إسرائيليين مقرّبين من الحكومة.
وُضعت الفكرة الأساسية: تجاوز الأمم المتحدة وإنشاء منظومة بديلة لتوزيع الغذاء تعتمد على شركات خاصة وأجهزة أمنية تعمل تحت إشراف مباشر من الجيش الإسرائيلي.
وفي مطلع 2024، تسارعت الاتصالات مع شركات أجنبية أبرزها شركة "سيف ريتش سوليوشنز" (SRS) التي يديرها فيليب رايلي، مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) ومرتبط تاريخيًا بعمليات تدخل عسكري خارجي، من نيكاراغوا إلى أفغانستان.
وقد تولّت شركته لاحقًا تأمين مواقع التفتيش في غزة خلال هدنة مؤقتة، ما اعتُبر اختبارًا أوليًا لنموذج أمني أوسع.
"الحل الغذائي" كأداة حرب
الخطة لا تهدف فقط لإيصال الغذاء، بل صيغت بعقلية عسكرية إسرائيلية ترى في المساعدات وسيلة لإضعاف المقاومة، لا لتلبية الاحتياجات الإنسانية.
بحسب وثائق وتحقيقات الصحيفة، فإن الهدف هو "سحب البساط من تحت فصائل المقاومة" عبر التعامل المباشر مع المدنيين، وخلق واقع جديد يسيطر فيه الاحتلال الإسرائيلي على شرايين الحياة في القطاع، دون أن يتحمل المسؤولية القانونية أو الأخلاقية عن السكان المحاصرين.
خرق قانوني وإنساني
تحذّر الأمم المتحدة من أن هذه الخطة الإسرائيلية للمساعدات تقوّض القانون الإنساني الدولي، لأنها:
تُنفّذ في مناطق خاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي، ما يجعل الوصول إلى الغذاء مشروطًا بعبور حواجز عسكرية محفوفة بالخطر.
تُوزّع المساعدات في مناطق محددة جنوب غزة، ما يدفع السكان المهددين بالمجاعة إلى النزوح القسري، ويخدم عملياً هدف إسرائيل في تفريغ شمال القطاع من سكانه.
تستبدل النظام القائم على توزيع المساعدات من مئات النقاط بنظام مركزي خاضع لجهات أمنية خاصة، ما يقيّد القدرة على تلبية الاحتياجات المتنوعة والمستعجلة.
وبحسب التحقيق، فإن مؤيدي الخطة يزعمون أن النظام "غير مثالي لكنه أفضل من لا شيء"، بينما تتجنّب الجهات المنفّذة الإفصاح عن مصادر تمويلها، رغم تقديرات بأن العملية كلّفت أكثر من 100 مليون دولار حتى الآن، بتمويل من "دولة أوروبية غربية" لم تُعلن هويتها.
شبكة النفوذ والضبابية
تشير الوثائق التي حصلت عليها نيويورك تايمز إلى شبكة معقّدة من الشركات والأفراد المرتبطين بإسرائيل وأجهزة استخبارات غربية، يقودون المشروع تحت أسماء مثل “مؤسسة غزة الإنسانية”، وهي منظمة مشبوهة التمويل تأسست في الولايات المتحدة وسويسرا، وتوظف نفس الأشخاص والمحامين الذين أسسوا شركة SRS الأمنية.
في جوهرها، هذه الخطة لا تتعلّق بالإغاثة بل بإدارة سكانية تُوظَّف فيها المساعدات كوسيلة للضغط السياسي والعسكري، في خرق صارخ لكل مبادئ القانون الدولي الإنساني. فبدل أن تكون المساعدات أداة للإنقاذ، تتحول إلى وسيلة قهر ونقل قسري للسكان.
ورغم نفي المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين لأي دور رسمي، إلا أن الوثائق والشهادات التي جمعتها نيويورك تايمز تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك: خطة المساعدات الجديدة في غزة ليست مستقلة ولا إنسانية، بل وُلدت في دولة الاحتلال، وتُنفّذ عبر واجهات أمنية غربية بغطاء إنساني زائف. إنها جزء من أدوات الحرب، لا من وسائل إنهائها.