الساعة 00:00 م
السبت 21 يونيو 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.7 جنيه إسترليني
4.92 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
4.02 يورو
3.49 دولار أمريكي

قهوة الغزيين في زمن الحرب… من مذاق الحياة إلى مرارة البديل

حجم الخط
القهوة في غزة
غزة-وكالة سند للأنباء

في أحد أزقة حي الزيتون، وبين أنقاض المنازل وبقايا الأرواح المتعبة، تجلس روان الأغواني (34 عامًا) أمام موقد بدائي صنعته من بقايا الحطب والحديد.

في يديها إناء صغير تحمص فيه حبّ الحمص، تقلبه بصبر حتى يتحول لونه إلى البني الداكن، ثم تطحنه وتضيف إليه القليل من الهيل. تقول:

"أي شيء يشبه القهوة.. نحتاجه لنشعر أننا لا زلنا بشرًا".

كانت القهوة، قبل الحرب، جزءًا لا يتجزأ من حياة الغزيين، تُقدم في اللقاءات اليومية، وترافق صباحات البسطاء وطقوس المناسبات، وتُعد رمزًا للكرم والسكينة، لكن في ظل الحرب المستمرة والحصار الخانق، تحوّل هذا المشروب اليومي إلى حلم بعيد المنال، بعدما تجاوز سعر كيلوغرام البن حاجز 230 دولارًا، بحسب بيانات الغرفة التجارية في قطاع غزة.

الناس يشترون الذكرى لا القهوة

في سوق مدينة غزة، يقف أبو أحمد الخولي، صاحب محل قهوة عتيق، ينظر إلى رفوفه شبه الفارغة. يقول بأسى:

"كنا نبيع قهوة مزاج من البن الكولومبي والبرازيلي.. الآن نبيع بن حمص وعدس ونوى تمر، وأحيانًا عبوات صغيرة من قهوة مغشوشة، لا طعم لها ولا رائحة".

يضيف أبو أحمد: "أصبح الناس يشترون الذكرى، وليس القهوة، يشترون ملعقتين فقط لشمّ الرائحة وتذكر الزمن الجميل".

ويشير إلى أن إنتاج القهوة في غزة كان يصل إلى 2500 طن سنويًّا قبل الحرب، وانخفض اليوم إلى مستويات "لا تُذكر"، بعدما توقفت المصانع مثل "بدري وهنية"، وتحولت إلى أطلال، نتيجة انقطاع الكهرباء وشح المواد الخام ومنع إدخال السلع.

قهوة من العدس… والغزيّ لا ييأس

لم يتوقف الغزيون عن البحث عن بدائل تمنحهم شعورًا، ولو زائفًا، بالراحة.. في مناطق عدة، تُحمّص حبوب العدس والحمص وحتى نوى التمر، وتُخلط بالهيل وتُغلى، لتنتج مشروبًا يحمل اسم "قهوة"، وإن كان الطعم مختلفًا تمامًا، لكنها وسيلة نفسية للمقاومة.

يقول حسن اشتيوي (27 عامًا)، وهو شاب جامعي لم يُكمل دراسته بسبب الحرب:

"لما بشرب قهوة العدس، بتذكر أمي وهي بتصبلي الفنجان في الصبح… مش نفس الطعم، بس الإحساس بيدفيني".

أرقام تكشف حجم المعاناة

وبحسب برنامج الأغذية العالمي، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية في غزة بنسبة 1000% مقارنة بأسعارها العالمية.

وتشير بيانات الغرفة التجارية إلى ارتفاع بنسبة 530% في أسعار السلع الأساسية داخل القطاع.

هذا الغلاء جعل الحصول على الضروريات، ومنها البن، "صراعًا يوميًّا من أجل البقاء"، كما وصف التقرير الأخير للبرنامج.

البن صار امتيازًا للأغنياء

بات البن، الذي كان مشروب الفقراء والأغنياء على حد سواء، امتيازًا لا يستطيع تحمّله إلا قلة. يوضح بلال، أحد تجار الجملة القلائل المتبقين.

وقال" "الكيلو بـ230 دولار، ومش مضمون حتى يكون أصلي… البن الحقيقي شبه معدوم، وما يدخل بيكون محتكر أو مخصص لمقايضات".

ويلفت إلى أن الكثير من الأنواع التي تباع حاليًّا "مغشوشة"، وتُعبأ في أكياس صغيرة بعلامات وهمية، بعضها يُباع بسعر يزيد عن 10 أضعاف ما كان عليه قبل الحرب.

من القهوة إلى الغريزة: الغزيّ يقاتل ليعيش

يختصر ممثل مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أجيت سونغهاي، المشهد بقوله:

"لدينا غذاء يكفي غزة لشهرين، لكن لا يمكن إيصاله بغير وقف إطلاق نار.. حين يرى سكان غزة الطعام أمامهم يتهافتون عليه، هذه غريزة البقاء، ولا ألومهم".

ووسط هذا الدمار، تظل القهوة، بما تحمله من رمزية، ضحية أخرى لحرب الإبادة، لكنها في الوقت ذاته، إحدى أدوات المقاومة النفسية التي يتمسك بها الغزيون ليثبتوا أن الحياة لم تُهزم بعد.

في زمن الحرب، لم تعد القهوة مشروبًا صباحيًّا، بل أصبحت تعبيرًا عن الكرامة والذكريات، محاولة يائسة لصنع لحظة دفء في برد الموت المتناثر.

وبين فنجان عدس وآخر من نوى التمر، يقف الغزيّ ثابتًا، يبحث عن طعم للحياة، ولو كان مرًّا كالقهوة.