بينما تهوي الصواريخ فوق رؤوس المدنيين وتضيق الأرض بسكانها في قطاع غزة المحاصر، يختار الأطفال أن يرفعوا رؤوسهم نحو السماء، لا هربًا من المقاتلات الحربية، بل بحثًا عن فسحة أمل ومساحة للخيال.
من أكياس الدقيق، وورق الخبز المقوّى، يصنعون طائراتهم الورقية، يلوّنونها بأصابع ترتجف من البرد والجوع والخوف، ثم يُطلقونها من بين الركام نحو السماء، ليست مجرد لعبة، بل فعل مقاومة ناعمة، ومقاومة للغياب، وتشبّث بالحياة في وجه آلة الموت.
طيران خارج الحصار..
في حيّ الصبرة بمدينة غزة، يقف الطفل سامي حجازي (11 عامًا) فوق بناية مهدمة جزئيًا، ويربط خيط طائرته الورقية. يقول بنبرة تجاوزت عمره: "لما بتطير الطيارة، بحسّ إني أنا كمان بطير.. بنسى صوت الطيارة الحربية".
يؤكد سامي أن طائرته مصنوعة من كرتونة مساعدات وأكياس بلاستيكية ممزقة. وحين يسأله أحد أصدقائه ممازحًا:
"بتطيرها عشان تبعد الطيارات عن بيوتنا؟" يضحك، ثم يواصل اللعب.
اللعب في مساحات الموت
وبحسب تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، فإن نحو 14,000 طفل فلسطيني استُشهدوا أو أُصيبوا منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، ويعيش أكثر من 600,000 طفل في ظروف نفسية "مدمّرة"، وسط نقص حاد في الغذاء والماء والدواء والتعليم.
ومع تدمير غالبية المدارس والملاعب، لم يتبقَّ للأطفال سوى السماء المفتوحة، ليصنعوا فيها فضاءً حرًّا لا يستطيع الاحتلال قصفه.
في مركز إيواء بحي الزيتون، تساعد الطفلة سلمى ارحيم (9 أعوام) شقيقها في صنع طائرة ورقية من قطعة ملاءة ممزقة. تقول بابتسامة: "كل يوم بقصفوا حوالينا، بس الطيارة بتخليني أحلم. بدي أطير عند دار ستي اللي اتهدّت، يمكن ألاقيها هناك!".
يرسم الأطفال على طائراتهم الورقية أعلام فلسطين، وقلوبًا، وأشجار زيتون، وأسماء شهداء، أو حتى ملامح بيوت لم تعد موجودة.
عماد الدهشان (32 عامًا) كان نجارًا قبل الحرب، واليوم يصنع الطائرات الورقية. يجمع أعواد القش والخيوط ويوزعها على الأطفال في الملاجئ والمخيمات. يقول: "كل ما بتمر طيارة استطلاع، بنفكر كيف نضل نعيش… الطيارات الورقية صارت علاج نفسي للأطفال، وهروب بسيط من واقع لا يُطاق".
أرقام مفزعة لواقع الطفولة في غزة
وتفيد تقارير حقوقية بأن أكثر من 17,000 طفل فقدوا أحد والديهم أو كليهما منذ بداية الحرب، فيما يعاني أكثر من 90% من الأطفال اضطرابات نفسية حادة. وتقترب نسبة الفقر بينهم من 100%، وسط انهيار كامل للاقتصاد المحلي.
ولا يزال أكثر من 625,000 طالب وطالبة محرومين من التعليم، بعد تدمير مئات المدارس وتعذّر استئناف العملية التعليمية، ما يُهدد مستقبل جيل كامل.
في غزة، لا يلهو الأطفال بطائراتهم الورقية فقط، بل يكتبون بها رسائل صمود، يرسمون فوقها عالمًا مختلفًا، ويربطونها بالسماء كأنها خيط نجاة، يمتد من تحت الركام إلى حياة تليق بطفولتهم.