الساعة 00:00 م
الأحد 06 يوليو 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.57 جنيه إسترليني
4.72 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
3.94 يورو
3.34 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

"سارة" تقاوم الحياة برجليها بعد أن أفقدها الاحتلال ذراعيها

"علا ونسيم".. جلسا معًا في استراحة "الباقة" وضحكا قبل أن يفرقهما الاحتلال للأبد

"الباقة" شهدت آخر عهد بين قلبين..

"علا ونسيم".. جلسا معًا في استراحة "الباقة" وضحكا قبل أن يفرقهما الاحتلال للأبد

حجم الخط
علا ونسيم
غزة - إيمان شبير - وكالة سند للأنباء

لم تكن علا تحمل قلبًا يسع الحب والحرب معًا، لكن غزة مدينة تعلّمك أن تمشي وفي صدرك جنازة، في فبراير، خطبها نسيم، شاب يشبه اسمه، خفيفٌ كنسمة، يُجيد الإصغاء، ومحبّ كمن يضع قلبه على كفّه في كل لقاء.

وفي حزيران، غاب عنها فجأة، كما تفعل الصواريخ التي لا تطرق بابًا ولا تترك مهلة للوداع، استُهدف المكان وهما يجلسان قرب البحر، يضحكان، يتشاركان حديثًا عاديًا وحبًا غير عادي، وفجأة صار الضحك صدى، وصارت يدها التي كانت في يده تمسك بشرشف لتوقف النزف.

في تلك اللحظة، لم يرتقِ نسيم وحده، ارتقت كل احتمالات الغد، لم تفقد علا فقط خطيبها الذي أحبّها من النظرة الأولى، بل فُقد معها شيء لا يُسمّى -تلك السكينة التي تسبق العاصفة-والتي كانت تظن أنها حُقنت بها منذ زمن.

في هذا التقرير، تروي "وكالة سند للأنباء" الحكاية كما قالتها علا: بخيط من دم، وخيط من قهر، وخيط من ذاكرة لا تتوقف عن النبض، نستعيد معها اللحظة التي توقفت فيها الحياة، واللحظات التي أصرّت فيها أن تستمر، نستعيده، كما أحبّته، وكما استشهد.

وفي 30 يونيو/حزيران المنصرم، ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مجزرة بحق المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة، بعدما قصفت طائراتها الحربية استراحة "الباقة" غرب مدينة غزة، أسفرت عن ارتقاء 33 شهيدًا، وتعتبر استراحة "الباقة" على شاطئ بحر غزة ملاذًا للعديد من المواطنين الذين يلجأون إليها هربًا من قصف الاحتلال المتكرر على منازلهم، لما توفره من مساحات مفتوحة.

97a9a562-811e-483f-b19e-4e8dc1cd944c.jpg

"خفيف الظل"..

تقول علا عبد ربه (22 عامًا)، طالبة في عامها الأخير من الهندسة الكهربائية، إنها ما زالت تحاول أن تتعلّم الحياة بعد أن خطف الموت كل ما يشبهها، فقدت والدتها وإخوتها خلال الحرب، ثم خُطبت في شهر فبراير لشاب أحبت فيه كل شيء، نسيم، الشاب الذي عرفها في دورة تصميم مواقع إلكترونية داخل حاضنة Bti لم يكن كغيره، كما تصفه؛ كان خلوقًا، طيب المعشر، خفيف الظل، كريم العاطفة، لا يدع لها فرصة أن تتعب في حضرته، دائم المساعدة، حاضرًا بقلبه وضحكته، ومحبًا لتفاصيلها، يمتلك صوتًا حانيًا.

وتعبر علا عن ذكرياتها معه بلهفة المشتاق ووجع المفجوع، وتقول إنهما كانا يخططان للزواج بعد الحرب، يتحدثان عن بيت صغير يجمعهما، عن قائمة مشتريات، عن أثاث بسيط وأيام هادئة لم تأتِ.

كان نسيم يحلم بالسفر معها، يخبرها أن هناك وفدًا يريد أن يصطحبه للعمل في مجال التصميم والمونتاج، لكنه كان دائم التكرار: "ما بطلع إلا وزوجتي معي"، ويقصدها هي، تؤمن علا بأن قلبه كان معلقًا بها، وأنه حتى في الطموح لم يُفكّر بنفسه فقط.

تسرد يومه الأخير بتفاصيله الصغيرة كما لو أنها تعيد شريطًا محفورًا في ذاكرتها، تقول إنهما توجها معًا إلى استراحة "الباقة" على شاطئ البحر، المكان الذي أحبّاه واعتادا الجلوس فيه، ضحكوا كثيرًا، التقط نسيم صورًا عدة وقال لها: "شايفة قديش الصور حلوة؟"، ظل ممسكًا بيدها، يسرد حكاياته، ويضحك وهو يروي مغامراته في محاولة الوصول إليها وخطبتها، وكأنه حقق نصرًا كبيرًا.

وحينما تحدّثا عن الموت، قال لها بصوت مطمئن: "لا تخافي، طالما إحنا مع بعض، بنموت سوا وما منخاف"، لحظات قليلة فصلت بين الحياة والموت، بين الضحكة والانفجار، تقول علا إنها سمعت دويًا ضخمًا، شعرت بأنها سقطت على الأرض، رفعت رأسها فوجدت قدمها تنزف، ربطتها بشرشف الطاولة، التفتت نحو نسيم، نادته: "أمانة، ضلك عايش.. احكيلي إنك بخير"، لكنه كان صامتًا، تنظر جيدًا، ترى النزيف الحاد من ظهره وساقه، تُقنع نفسها أنه ما زال على قيد الحياة.

تعبر عن اللحظات التالية بأنها كانت الأبطأ في حياتها، رغم أن الزمن كان يركض من حولها، أُصيبت في قدمها إصابة متوسطة، انقطعت بعض الأوتار، ونُقلت إلى المستشفى بصعوبة، لم تتمكن من الوصول إليه في اللحظة نفسها، ولكنها لحقت به بعد دقائق، تسأل والدها وسط دموعه: "نسيم كويس؟ أمانة احكيلي"، لكنه لا يجيب، والصمت يلف المكان، بعد ساعات، تخبرها ابنة خالها بالحقيقة، تقول: "استشهد، هينا جبنالك ياه تشوفيه."

تقول علا إنها حين رأته، لم ترَ ميتًا، بل بدرًا، بل أجمل من البدر، تؤكد أن ملامحه كانت هادئة، وكأن روحه لم تغادره بعد، تهمس: "اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، أشهدك ربي أنه كان يستحق الشهادة، فما رأيت أحنّ منه على قلبي."

وحينما تستذكر منشوراتهما وأحاديثهما، تنهار الكلمات من عينيها قبل أن تخرج من فمها، تتحدث عن المرة التي أرسلت له فيها اقتباسًا من أدهم شرقاوي يقول: "إذا متُّ في هذه الحرب، هل سترثيني؟" أرسلته ضاحكة، لكنه رد باكيًا وكتب: "ما صان قلبي حين أكون جوارك، أتظنينه بعد فراقكِ سيصون؟"

تردد آياتٍ كان يقرأها لها، وأناشيد كان يُهدهد بها قلبها، كلمات مثل: "اصبري لو نال منا الظالمون لن نحيد"، و"لا تقولي لا ولن، إنه القدر، يا حب لا تبكِ."

تعترف أنها لم تكتب له مرثية، لأنه لم يمت في داخلها، تقول: "كنت أود يا روحي لو أرثيك ببعض ما في قلبي، لكني أراك حيًا.