خليل الرحمن، تلك المدينة الفلسطينية التي عمرت آلاف السنين، عُرفت بمساجدها وزواياها العتيقة، بين أكنافها احتضنت العلم والعلماء، فكانت موئلاً لهم، تحيط بها جنة من الينابيع والبساتين.
مدينةُ يُرى في جدرانها أصالة الماضي، وعبق التاريخ، لاسيما "حارة الشيخ" الفريدة بجمالها وبساتينها الخضراء الممتدة نحو الجبال التي كانت معقلاً للثوار والمجاهدين.
سب التسمية
وعن سبب تسمية "حارة الشيخ" يقول المؤرخ عدنان أبو تبانة أن "حارة الشيخ" سميتُ بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها وجذرها الأول الشيخ القوقازي العابد المتصوف علي البَكّاء، والذي قدم من بلاد القوقاز مع جيش صلاح الدين إلى فلسطين وسكن الخليل.
وسمي "البكاء" لكثرته بكاءه ورعاً وخوفاً من الله، ولهذه الخصلة الحسنة زوجه أهلها إحدى كريماتهم فاطمة الجعبري كريمة أحد العلماء المشهورين.
العابد المقاتل
ويبين أبو تبانة لـ"وكالة سند للأنباء"، أن الشيخ علي البكّاء كان مقاتلاً في جيش صلاح الدين، وتدرّج في سلم العسكرية بالعصر الأيوبي الأخير، والمملوكي الأول، حيث ساهم في قيادة عدة معارك ضد الصليبيين أهمها معركة "أرسوف" على الشاطئ الفلسطيني بين حيفا ويافا والتي فتحها عام 658 هجري.
وكان "البكّاء" صديقاً للسلاطين المماليك في عهده، وخاصة الظاهر بيبرس والسلطان قلاوون الذي بنى لـ"البكاء" زاوية يتعبد فيها، لتصبح بعد ذلك مقراً ومكاناً ومسجداً له، وقد زاره السلطان قلاوون فيها.
حارة مملوكية
توفي الشيخ على البكاء في الخليل عام 1272ميلادي، ودفن في زاويته التي باتت تعرف المنطقة فيها، لتسمى بحارة الشيخ نسبةً للشيخ البكاء، حيث تجمعت العائلات من نسله ومن العائلات الأخرى حول الزاوية، إلى أن تكونت الحارة بأكملها.
وتعتبر حارة الشيخ من الحارات المملوكية، كما يشير إلى ذلك الكاتب نضال بدر صاحب كتاب "حارات الخليل العتيقة" حيث يقول: حارة الشيخ تقع شمال البلدة القديمة وحرمها الإبراهيمي الشريف، بنيانها قديم وهي منفصلة عن البلد القديمة من جهة الشّمال، والحارة مبنيّة على سفحيّ جبليّ "بيلون"، "وخلّة قشقلة".
نمط الحارة المعماري
ويضيف الكاتب بدر في حديثه لـ "وكالة سند للأنباء": حارة الشيخ مشهورة بقناطرها التاريخية، مثل قنطرة ناصر الدين، والقنطرة المسقوفة، وقنطرة الزاهد، وهناك عدة أزقة وأحواش بنيت على النمط الاسلامي: مثل حوش مسك، وحوش يغمور، وأبو هدوان والهيموني.
ويلفت بدر إلى أن أزقة الحارة وبيوتها بُنيت على الطراز الإسلامي وانتشرت فيها الزوايا، كزاوية الشيخ على البكاء، وزاوية الشيخ عيسى نجم الدين الزاهد، وزاوية الشيخ الشريف وغيرها.
بينما يوضح المؤرخ أبو تبانة أنه وفي العهد المملوكي تم إكمال البناء ليصبح مسجداً شامخاً بمئذنته المميزة التي امتدت إلى خمسة عشر متراً، وقد أكمل البناء الأمير حسام الدين طرنطاي في دولة الملك المنصور بن قلاوون.
جنة الينابيع والبساتين
وتتميز حارة الشيخ عن غيرها من حارات مدينة الخليل باتساع أراضيها وامتدادها وكثرة عيونها وبساتينها وآبارها وكثافة أشجارها.
ويصف الإعلامي جهاد القواسمي حارة الشيخ التي ولد وترعرع فيها أنها جنة الله في أرضه "عين قشقله"، والتي ينساب منها الماء نحو البساتين المجاورة، حيث الأشجار الملتفة وكروم العنب وأشجار البرقوق واللوز والجوز والتوت الأبيض والأحمر التي كانت تضفي على المكان روعة وجمالاً.
ويضيف القواسمي في حديثه لـ "وكالة سند للأنباء"، أن عين قشقله كانت تسقى عائلات الحارة، ويغتسلون من مياهها ويغسلون ملابسهم، وتبقى مياهها العذبة منسابة وتتدفق طوال العام ، هذا بالإضافة إلى تغذيتها لعدد من الآبار التي هي أسفل منها، مثل بئر الحمص وبئر يعقوب وبئر إبراهيم التي تقع في شارع باب الزاوية وشارع الشلالة .
ويشير المؤرخ مصطفى مراد الدباغ في كتابه "بلادنا فلسطين"، إلى أن عين قشقله كانت تسقي زوار الحرم الابراهيمي، وقام العثمانيون ببناء قنوات من الفخار امتدت من عين قشقلة عبر أزقة حارة الشيخ، مروراً بمنطقة عين القرنة وديوان الأكراد ثم الحرم الإبراهيمي.
وينوه مصطفى إلى أن هذه القنوات تحطمت بفعل الحفريات وخاصة في ظل الاحتلال.
حارة القيادة
أطلق القائد عبد الحليم الجولاني أحد قادة ثورة عام 1936م، وابن حارة الشيخ التي ولد فيها لقب "حارة القيادة" على حارة الشيخ، كونها كانت تحتضن المزيد من الثوار المقاومين للانتداب البريطاني.
ويقول الإعلامي القواسمي لـ "وكالة سند للأنباء": "حدثنا أجدادنا كبار السن أن المتطوعين من الناس أبناء الحارة والحارات الأخرى في الخليل كانوا يجمعون السلاح ويخزنونه في مسجد الشيخ على البكاء".
ويضيف القواسمي: "في الليل يقوم الثوار بنقله على الحمير والبغال إلى مقر قيادة الثورة في شعب الملح، ويقوم الجولاني الملقب بالشلف باستلامه واستخدامه هو الثوار في مقارعة الانجليز والعصابات الصهيونية".
ويتابع: "اشتبك الشلف وثوار حارة الشيخ مع الانجليز في معركة حامية الوطيس شمال الخليل في منطقة جورة بحلص على مدخل المدينة الشمالي، وأوقع ثوار حارة الشيخ الكثير من الضحايا وخسائر في المعدات للانجليز، وانسحب الثوار بسلام وأمان".