"بدي أمسك إيد ابني وآخذه في أول يوم للمدرسة".. أمنية ترسم صراعاً في حياة لأجل الحياة، لأجل طفلٍ يقاسي ويلات الفراق الذي تسبب به الاحتلال الإسرائيلي، ولأجل فلذة كبده الوحيد، أعلن الأسير علاء الأعرج إضرابه عن الطعام منذ 91 يوماً؛ ليعيد لنفسه ولعائلته وهجاً انطفأ منذ سنوات.
الأسير علاء الأعرج (34 عاماً)، من بلدة عنبتا بين محافظتي نابلس وطولكرم، يخوض بأمعائه الخاوية معركةً في زنزانة ضيقة كضيق الحياة في نظر أحبته، لكنها أوسع من فضاء رحب لنيل حريته والتصدي لذل الاحتلال.
واحد من الأسرى الذين يخوضون إضرابًا مفتوحًا عن الطعام في سجون الاحتلال الإسرائيلي، هو الأسير علاء، المضرب منذ السابع من شهر أغسطس/آب الماضي، أي بعد نحو شهر ونصف من اعتقاله في الثلاثين من يونيو/حزيران وتحويله للاعتقال الإداري لستة أشهر قابلة للتجديد.
وفي مكالمة أجرتها "وكالة سند للأنباء" مع زوجة الأسير "الأعرج" أسماء قزمار، تصف لنا تلك الليلة الظلماء التي اعتقل فيها زوجها، والوضع الصحي الخطير الذي يتعرض له في السجون.
كانت ليلة اعتقاله الأخير في أغسطس أشبه بكابوس على العائلة وعلى طفلهما الوحيد الصغير كما وصفت لنا "أسماء"، عندما فجرت قوات الاحتلال الإسرائيلي باب المنزل واقتحمته، ثم اقتادت الأب "علاء" أمام عائلته وانهالت عليه بالضرب المبرح، أمام ناظري طفله الصغير الذي يصرخ وينادي بأعلى صوت يتردد على الآذان صداه، " بابا.. سيبوا بابا".
وكأن الحرية هبة تُعطى! خمس سنوات في سجون الاحتلال الإسرائيلي قضاها "الأعرج" منذ عام 2017، بدأت باعتقال لسنتين خرج بعدها 5 أشهر، ثم أُعيد اعتقاله إدارياً لـ20 شهراً، وبعد 11 شهراً من الإفراج اعتقل مجدداً في الثلاثين من يونيو/ حزيران الماضي، ليبقى على إثرها إلى الآن، بعيداً عن عائلته وطفله الذي يبلغ من العمر خمساً كسنوات الاعتقال، لم يرَ والده فيها إلا سنة ً ونصف متفرقة!
"وضع صحي متفاقم"
وبنبرة القلق والحزن تجيبنا "أسماء"، "ما شفناه، وما صدر قرار بتجميد الإداري".. كلمات لا تفي بقسوة الشعور عندما تصف الزوجة ألماً يقاسيه رفيق دربها الذي دخل مرحلةَ الخطر، فتقول: "إن الأعراض بدأت معه تدريجياً، حتى أصبحت دائمة كالنوبات التي توقفت عن كونها نوبة لتصبح وجعاً مستمراً لا ينقطع، ورجفة الأطراف التي أصبحت تحت الجسم أيضاً".
وتضيف بقلقٍ وخوف، كذلك تشنجات اليدين والأقدام التي يصاحبها اهتزاز في الرؤية، وأحياناً فقدان تام للبصر الذي لا يريه إلا العتمة.
أما الآلام الشديدة في البطن التي كادت أن تمزق جسده "كما وصفت "قزمار"، وآلام المفاصل والعضلات، التي لا تنفك عنه، كذلك ارجاع الماء من الأنف، والإغماء المتكرر.
وبجسده الهزيل الذي فقد أكثر من 20 كيلو منه، يصارع نخزات القلب والكلى والتشنجات والخطر الذي وصل الجهاز العصبي.
وبصوت متحشرج ونبرة يكسوها الخوف، تقول "قزمار" " كنا خائفين أن يخرج علاء وأحد أعضاء جسمه معطل، لكننا الآن في أوج معركة خائفين أن يُفقدَ علاء كُلَّه".
وتؤكد زوجة "الأعرج" لـ" سند" أن محامي الأسير قدم التماساً وتقارير طبية لتجميد قرار الاعتقال الإداري بحق "علاء"، إلا أنه قوبل بالرفض.
وتقدم الأسير يوم الخميس الماضي لجلسة تحقيق في محكمة الاحتلال العليا، وتم تمديد الجلسة إلى 6 أيام، لتنعقد مجدداً يوم الثلاثاء الذي يوافق التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني.
وهنا تتجلى العظمة أمام الصمود الفلسطيني الذي يصارع بقوته الاحتلال، وبألم قلبه يواجه مرارة الفراق.
تبين "قزمار" لـ"سند" أن الأسير المضرب عن الطعام يضرب كذلك عن الفحوصات الطبية والعلاج، بيد أنهم لا يخضعون لمراقبة صحية حثيثة، وتجميد "الإداري" ليس سبباً لفك الإضراب، إنما تحقيق مطالب الأسير هي الغاية.
" مطلبٌ واحد"
عندما يجول في خاطرك سؤال عن مطلب لأسيرٍ منعه الاحتلال حريته، أول ما يجوب ذهنك هو نيل الحرية والخروج من هذا الضيق، أما مطلب "علاء" فقد تجلى بلين قلبه الذي أراد مشاركة ابنه في العيد الذي مضى ليس إلا!
وانقضى العيد ومرت الأشهر، لكن المطلب بالخروج لطفله ما زال قائماً، فابنه "محمد" هو الحياة التي يصارع من أجله الحياة، الذي يتوق للمسة منه، وحضن دافئ يعوضه عن الحرمان الذي ألَمّ به.
تقول "قزمار" رغم إصرار زوجها على تحقيق مطالبه، وتفاقم وضعه الصحي، إلا أن رسائله تبعث بالمعنوية والثبات والصبر، فتنقل لنا عن محامي الأسير : "بيعطيكم أنتم معنويات".
أما عن الجهود المحلية والدولية، توضح "قزمار" أن هيئة شؤون الأسرى والمحررين حريصة وتسعى لإنقاذ حياة الأسرى، لكن محامٍ واحد لتتبع حالاتهم لا يكفي، وكل عائلة بحاجة للاطمئنان بشكل دوري على أسيرها في كل يوم، والجهود الدولية تكاد تكون منعدمة على حد قولها.
"ستنقشع الغمامة السوداء"
بظروف حياتية صعبة تخيم عليها غمامة سوداء لن تنقشع إلا برؤية غائبهم أمامهم، تعاني زوجة الأسير وعائلته "الأعرج" أوضاعاً قلقةً مُريبة، وانعكست على طفل الأسير "محمد" الذي دخل في حالة نفسية صعبة بغياب والده.
" بابا مش راضي ياكل ولا يشرب، زعلان عشان يروحلك ".. بهذه العبارات تواسي وتخبئ زوجة الأسير "الأعرج" ألم هذا المُصاب عن طفلها الذي لم يتجاوز الخمس سنوات، وكأنهنَّ جبال يطبقن على صدره، فيكبُر بهنَّ خمسين فوق الخمس!
وهنا تنتظر العائلةُ فرحة تزيح عن القلب الكدر، وتبعث الروح من جديد في قلوبٍ أنهكها الحرمان، لترى وجهاً طالما انتظرته فتعيد نظرته الحياة والبهجة لهم مرةً أخرى".