"بُترت طفولتنا، مبانينا، أمانينا، وإن حاولنا النجاة قطعوا أيادينا فماذا فعلنا حتى تكون الحرب حاضرنا وماضينا؟" عبارة اقتبستها الفنانة آلاء الجعبري في أحد أعمالها الفنيّة، لتتساءل على لسان الغزيين عن قدرٍ مؤلم يلتصق بالأجيال المتعاقبة في هذه البقعة الجغرافية التي تغيرت معالمها كليًا وأضحت مدينة أشباح منقوعة بأحزان أهلها، ويفوح من أزقتها المدمرة رائحة الموت؛ بفعلٍ العدوان الإسرائيلي الدموي المتواصل منذ ستة شهور.
آلاء الجعبري (28 عامًا) فنانة فلسطينية من قطاع غزة تهتم بإنتاج الرسم التصويري والتصميم، سخّرت موهبتها التي اكتشفها منذ طفولتها، لتحكي للعالم عبر فن القصص المصورة (الكومكس) من واقع تجربتها عن أوجاع ومعاناة الغزيين، الذين يرزحون تحت وطأة حرب الإبادة الجماعية منذ شهورٍ طويلة.
"آلاء" وهي خريجة إدارة صحية من جامعة القدس المفتوحة، تستهل حديثها مع مراسلة "وكالة سند للأنباء": "أدركت منذ سنوات أنه لا بد من توثيق ما يجول في خاطر الغزيين، ومعالجة معاناتهم وآلامهم الممتدة منذ النكبة، والقضايا التي تؤرق حياتهم على مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية والنفسية".
وتضيف أنها كانت تقضي وقتًا طويلًا في الرسم على الورق وطورّت مهارتها الفنية من خلال الممارسة والمتابعة الذاتية، وقبل نحو 3 سنوات صارت ترسم رقميًا لتنقل عبر منصات التواصل الاجتماعي قصة الشعب الفلسطيني ورسالته إلى المنصات العالمية.
وكغيرها من الأجيال الشابة في القطاع عاشت "آلاء" حروبًا متعاقبة خلال سنوات عمرها، آخرها التي بدأها الاحتلال في السابع من أكتوبر/ تشرين أول الفائت ولم تنتهِ فصولها الصادمة بعد، ونزحت تحت كثافة النيران والقذائف الإسرائيلية إلى أكثر من مكان داخل غزة، قبل أن تنتقل أخيرًا إلى خيمة تغيب عنها مقومات الحياة، في منطقة "مواصي" رفح جنوب القطاع.
تُخبرنا أنّ الحرب المتوحشة وويلاتها التي فاقت بشاعتها الخيال، تركت آثارًا نفسية صعبة على الجميع، فقد طال الموت والتدمير كل مقومات الحياة في غزة، ولم يسلم منها البشر والشجر والحجر، فما كان من "آلاء" إلا أن تقف بما تبقى لديها من قوة وقدرة، لوصف حجم الوجع اليومي لشعبها وإعلاء صوته، عبر لوحاتها: "تاريخ مليء بالدم والقتل والتهجير والمعاناة الممتدة، لابد للعالم أن يراه".
وأنت تتنقل في صفحتها الشخصية على "انستغرام" ستجد في لوحاتها التساؤلات نفسها التي يطرحها الغزيون أينما وليت وجهك من شمال القطاع حتى جنوبه: "ماذا لو خلت السماء من ضجيج الطائرات؟ ماذا لو ترسوا مراكبنا على الشاطئ الآخر لغزة"، حسنًا ماذا عن إجابة السؤال الأكثر تداولًا: "وكتيش بدها تخلص الحرب؟".
في صفحتها أيضًا تقرأ رسائل مغموسة باللون الأحمر القاني (في إشارة لدم الضحايا) من وحي الواقع الغزي المرير: "تعبنا، اشتقنا لدارنا، نفسنا نعيش، وكتيش ح نرجع؟، متنا برد وجوع، الأسعار غالية"، وأخيرًا: "حطوا حالكوا (العالم) مكانا".
تستدرك آلاء الجعبري: "ما أعيشه يوميًا في الحرب، يعيشه الغزيون كذلك، فنحن نتقاسم المعاناة ذاتها، ونُفكر بطرقٍ متشابهة عمومًا حول حاضرنا ومستقبلنا وحتى ماضينا الذي قتلوه، ولكلٍ منّا طريقته في التعبير"، فكان الرسم ملاذها ووسيلتها.
في الخيم والمراكز التي تؤوي النازحين في مختلف مناطق قطاع غزة، ستجد مشاهد تحكي عن معاناتهم اليومية، كطفلٍ يحمل أعباء أسرة كاملة بعد أن فقد والديه أو أحدهما، وهو ما وثقته "آلاء" في لوحاتها: "طفل يحمل جالونين من المياه ويسير حافي القدمين نحو خيمتهم".
كذلك فرضت تقطيع أوصال القطاع المحاصر وصرير الطائرات، وعمليات الاستهداف الممنهج للأطفال والنساء، والصحفيين، والعوائل الآمنة في بيوتها نفسها على لوحات ضيفتنا: "رُضع في أكفان بيضاء، بكاء مرّ في وداع العائلة، أب ينهار باكيًا بعد أن انتشل جثمان طفلته من تحت الأنقاض، صواريخ تُدمر كل شبر في المدينة وغيرها".
كل ذلك يمر سريعًا على شريط الأخبار وتملأ الصور والفيديوهات التي توثق جرائم الاحتلال شاشات التلفاز، دون أن يحرك العالم ساكنًا، وفي الحقيقة أنّ لكل إنسان في غزة قصّة وحلم لم يكتمل وأن البيوت لم تشيّد بالحجارة فقط، لذا "لا بد من توثيق لو جزء بسيط من وجعنا، ونقله إلى من هم خارج غزة علّهم يستفيقون من حالة الصمت والخذلان"، تقول آلاء الجعبري.