"ضحية الكرسي وبائع الصبر".. قصة استشهاد مواطن فلسطيني في سوق الصحابة بغزة

حجم الخط
أدهم عليا - سوق الصحابة
غزة - إيمان شبير - وكالة سند للأنباء

في زاويةٍ من زوايا سوق الصحابة وسط مدينة غزة، وبين ضجيج الحياة وصخبها، كان يجلس المواطن أدهم شعبان عليان (55 عامًا)، يبيع بضاعته المتواضعة على بسطةٍ صغيرة، يقاوم بيديه قسوة الظروف، ويبحث بعيونه عن زبون يشتري منه ما يعيل به أسرته، في زمن لم يبق فيه للأمل مكان سوى قلوب الصابرين.

لم يكن يدري المواطن "أدهم" أن الحرب ستطارده حتى في تلك الزاوية البسيطة. فجأة، وبينما كان جالسًا على كرسيه، وفي لحظةٍ مفجعة، حامت فوق رؤوس الناس الطائرة الإسرائيلية "كواد كابتر"، تبحث عن هدف، وجدت في هذا الرجل البسيط ضحيةً سهلة، فأطلقت عليه رصاصةً غادرة، ليرتقي شهيدًا وسط بسطته، وعلى كرسيه الذي كان شاهدًا على كفاحه وصموده.

الصورة التي التقطت له، وهو مسجى على كرسيه المتهالك، تلطخت بدمائه الزكية، انتشرت كالنار في الهشيم على صفحات الفيسبوك، وأصبحت صورته رمزًا للقهر والظلم، تتناقلها القلوب والأعين، تذكر الناس بأن هناك أبًا وأخًا وابنًا فقد حياته في لحظة غدرٍ بشعة.

"رحيل قاهر"..

يقول شادي سمارة ابن شقيقة الشهيد أدهم، لـ "وكالة سند للأنباء"، "عرفنا خالي الذي كان يُعيل 5 أفراد، منذ كنا صغارًا كشخص مجتهد ومثابر، كان يمتاز بالحنان الذي يفوق في بعض الأحيان حنان والدَيّ، أتذكر جيدًا عندما كان يدرس المحاسبة في الجامعة الإسلامية، لكن الأقدار لم تكن لصالحه؛ فقد اضطر إلى ترك الدراسة بعد وفاة جدي بسبب الظروف المالية الصعبة التي مرت بها العائلة".

ويُتابع حديثه "سمارة"، بعد أن ترك الجامعة، لجأ خالي إلى العمل في مختلف الأعمال اليدوية لتوفير لقمة العيش، وكان يحمل الأغراض أحيانًا، ويعمل مساعدًا في متجر أحيانًا أخرى، لم يترك أي فرصة عمل إلا واستغلها، رغم الظروف الصعبة التي حالت دون حصوله على وظيفة حكومية".

ويُكمل، "خالي أدهم عاش حياته بكدٍ وجهدٍ كبير، كان يخرج من بيته بعد الفجر ويعود بعد العشاء، يعمل بلا توقف ليعيل أسرته، أذكر أن خالي كان الأكثر برًا بوالديه وإخوته بين أفراد عائلتنا، حتى في شبابه، رفض منحة دراسية للخارج حتى لا يبتعد عن أمه، مفضلًا الحياة المتعبة والبقاء بجانب عائلته على السفر والابتعاد".

ويسرد ضيفنا، عندما تزوج خالي أدهم، بنى منزله فوق منزل أهله، واستثمر فيه كل مدخراته، ليعيش فيه وقتًا طويلًا حتى أصيبت جدتي بمرض جعلها غير قادرة على الحركة. عندها، اختار أن يعتني بها ويفضل راحتها على راحته. قام بنقل بيته الجديد إلى بيت العائلة الكبير في الطابق الأرضي ليبقى قريبًا من أمه ويرعاها، كان قراره هذا صدمة لنا جميعًا؛ فقد كنا ندرك مدى التعب والجهد الذي بذله لبناء منزله. ومع ذلك، فضّل أن يكون قريبًا من أمه على راحته الشخصية".

ويُوضح "سمارة"، "عاش خالي حياة مليئة بالصعوبات، لكنه كان دائمًا أحن الناس وأطيبهم، كان يرد الإساءة بالإحسان، وكان مثالًا للتضحية والحب الحقيقي للعائلة".

وماذا عن علاقتك بِـ خالك أدهم؟، يُجيبنا: "كانت علاقتي بخالي أدهم دائمًا قوية، فطالما كنت أشعر بالطمأنينة عندما أجده في المنزل. مع أنني كبرت وأصبحت أبًا، إلا أنني لا زلت أشعر بدفء حنانه في كل مرة أسلم عليه أو أقبل جبينه، إن الخال هو الأب أيضًا، وهذه الكلمات هي ما تلخص علاقتي الوطيدة بخالي أدهم".

وبكلماتٍ شجية، يزيد "سمارة"، "عندما اندلعت الحرب، واجه خالي أوقاتًا عصيبة إذ لم يكن قد ادخر شيئًا ليعيل به أسرته، لم يعتد خالي الجلوس في البيت يومًا، بل كان دائمًا يخرج إلى السوق، يسعى جاهدًا لكسب ما يكفي لإطعام عائلته".

وبشعور لا يُمكن وصفه، يتحدث "ضيف سند"، "للأسف، انتهت حياة خالي أدهم المليئة بالكد والتضحية بطريقة مأساوية. قُتل خالي المظلوم في الحرب بطريقةٍ بشعة، تاركًا وراءه أرملة وأيتامًا بلا معيل أو سند. لم يبق لهم سوى الله ملجأً وعزاءً".

ويُعبّر "سمارة"، "كان خالي أكثر من رأيتهم بؤسًا، ولكن والله لم أسمعه يومًا يتذمر من الحياة، ولم أره يومًا يظهر ساخطًا، كان دائمًا يحمد الله ويسعى جاهدًا لرضا والديه، يموت اليوم خالي دون أن يُذكر اسمه في نشرات الأخبار، يموت مجهولًا وحيدًا، على الحالة التي عاشها طيلة حياته، جالسًا على بسطته يبيع ما يمكن ليعيل أسرته. رحل وفي نفسه حاجة، بل الكثير من الاحتياجات".